كابادوكيا …ما لا تعرفه عن سر “مدن الجن” التي لجأ إليها المسيحيون والمسلمون هربًا من الاضطهاد
يقضي السياح عدة ساعات لاكتشافها، يتجولون طوال النهار بين الممرات الصغيرة والغرف الهندسية الساحرة، ويفترشون أرضها للنوم ليلًا، تحت عمق يزيد على 50 مترًا من سطح الأرض، في تجربة سياحية فريدة من نوعها، تشعرك بأنك دخلت آلة الزمن وانتقلت من خلالها لعصور لا نعرفها نحن البشر.
فهل سمعت من قبل عن مدن الجن تحت الأرض؟ أو مدينة الكهوف الغريبة أو مدن «مداخن الجنيات» أو المدن الجوفية في منطقة كابادوكيا بتركيا؟
أكثر من 200 مدينة تحت الأرض، عاش بها البشر منذ آلاف السنين، مساحات واسعة، طوابق وممرات وغرف نوم، إلى جانب غرف تناول الطعام وطهيه، وساحات العبادة والدراسة، وحظائر الأغنام والماشية.
مدن تحت الأرض في منطقة كابادوكيا في الأناضول وسط تركيا، مكان طبيعي ساحر وخلاب، ولغز اختلف حوله العلماء، ومزار سياحي عالمي وضع على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 1985، وسنتعرف إلى تاريخ مدن تحت الأرض في السطور القادمة.
كابادوكيا: أكثر من 200 مدينة تحت الأرض من صنع الطبيعة
تقع منطقة كابادوكيا والتي تعني في اللغة الفارسية أرض الخيول، لأنها تعرضت تاريخيًّا للغزو الآسيوي/المغولي – التتري/التركي؛ على الهضبة الوعرة شمال جبال طوروس في وسط تركيا الحالية، وهي منطقة قديمة في شرق وسط الأناضول،.
وتحتوى المنطقة على العديد من المناظر الطبيعية، والتي تتضمن مساحات كبيرة من الصخور البركانية الناعمة، والتي شكلت بدورها الأبراج والأقماع والوديان والكهوف والمداخن الصخرية العملاقة عن طريق عوامل التعرية.
تكونت المداخن نتيجة عملية جيولوجية بدأت منذ ملايين السنين، عندما أمطرت الانفجارات البركانية الرماد عبر ما سيصبح في النهاية تركيا، تصلب هذا الرماد في صخور مسامية كانت مغطاة بطبقة من البازلت، ومع مرور آلاف السنين بدأت عوامل التعرية في إحداث التغيرات، تآكلت الطبقات الأكثر ليونة؛ مما أفسح المجال لأعمدة يصل ارتفاعها إلى 130 قدمًا، مكونة غطاء واقيًا على شكل عيش الغراب فوق كل منها، وهكذا ولدت مداخن الجنيات الخرافية.
أنتجت الطبيعة هناك لوحة فنية رائعة أطلق عليها اسم «مداخن الجنيات»، وهي أكثر من 200 مدينة تحت سطح الأرض لها فوهات ومداخن تشبه نبات الفطر، استغلها البشر استغلالًا مثاليًّا، فأعادوا تصميمها ونحتها وتنظيمها وتقسيمها، وانشأوا مدنًا رائعة تحت الأرض، احتمى فيها السكان آلاف السنين، وتضمنت المدن ممرات وغرفًا وقاعات تحت الأرض، استوطنها البشر في عصور مختلفة، وبسبب موقعها على طريق الحرير التاريخي التجاري، أصبحت مطمع جميع القوى على مختلف العصور، وقرنًا بعد قرن داهم المنطقة وغزاها العديد من القوى الاستعمارية مثل الفرس، والإسكندر الأكبر، والرومان، والسلاجقة، والبيزنطيين، وجميعهم طالبوا بالأرض في وقت ما.
تنتشر في المدن الجوفية بمنطقة كابادوكيا، الكنائس الصخرية ومجمعات الأنفاق تحت الأرض من العصور البيزنطية والإسلامية، وتعد منطقة كابادوكيا منطقة سياحية رائعة يقصدها الزوار من كل مكان في العالم للاستمتاع بالمدن الأرضية الفريدة، كما أدرجت المنطقة على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي عام 1985، ومن أشهر معالم منطقة كابادوكيا «حديقة جوريم الوطنية» و«مدينة الجن ديرينكويو».
ديرينكويو: «مداخن الجنيات» ذات الطوابق والممرات التي تسع 20 ألف شخص
هدم رجل في ولاية نيف شهير التركية جدار منزله في عام 1963، من أجل أعمال توسعة خلفه، وبالصدفة اكتشف غرفة غامضة، واصل الرجل الحفر، وسريعًا ما اكتشف نظام طرق قديمًا معقدًا مع غرف تشبه الكهوف، بعد استدعاء السلطات وتناقل الخبر في وسائل الإعلام، اكتشفوا أنها جزء من منطقة كابادوكيا في وسط الأناضول، وأطلقوا عليها مدينة «ديرينكويو القديمة».
تعني كلمة ديرينكويو؛ البئر العميقة، والتي تدل على الحجم الكبير والعمق الطويل تحت الأرض، ويطلق عليها البعض «مدينة الجن»، وهي واحدة من أشهر المدن تحت الأرض في كابادوكيا، كما أنها أعمق مدينة أيضًا تحت الأرض في كابادوكيا، وجرى افتتاح المدينة للزوار في عام 1969، مع توفر نصف المدينة فقط للمشاهدة والتجول.
تستطيع المدينة إيواء نحو 20 ألف شخص بالإضافة إلى ماشيتهم وطعامهم واحتياجاتهم المختلفة، وتتكون مدينة ديرينكويو من 18 طابقًا وتصل إلى عمق 85 مترًا تحت سطح الأرض، مقسمة إلى ممرات وسراديب، تؤدي إلى غرف نوم ومعيشة وطهي الطعام وتناوله، وصالات للدراسة وحظائر للماشية، ومخازن للحبوب والآلات.
كما تحتوي على 15 ألف قناة تهوية توفر الهواء النقي في عمق المدينة تحت الأرض، ومجموعة معابد دينية وكنائس، وتعد الكنائس العديدة التي حفرت في عمق الصخر موطنًا للفنون والحرف اليدوية الرائعة، ويستخدم منها البعض فنادق حاليًا.
يعتقد البعض أن البشر عاشوا في هذه الممرات والغرف الضيقة لعدة أشهر للاحتماء من القوات المغولية، واستخدموا فيها كل شيء بإمكانهم الاستفادة منه، بدءًا من مئات الغرف وحتى أنفاق الاتصال التي يمكنهم من خلالها نقل الرسائل والأخبار عما كان يحدث من حولهم، ويرجح البعض أن المدينة بنيت خلال العصر البيزنطي، واستخدمها السكان لحماية أنفسهم من العرب المسلمين خلال الحروب العربية البيزنطية بين عامي 780 و1180 ميلاديًّا.
مدن الجن التركية: متى بنيت وما السر وراء بناء مدن تحت الأرض؟
اختلف العلماء حول تاريخ بناء المدن الجوفية بمنطقة كابادوكيا والسر وراء بنائها، كما لم يستطيعوا أيضًا تحديد هوية من بنى تلك المدن الغريبة والرائعة، فهناك العديد من النظريات التي تحاول توضيح تاريخ هذه المدن والكهوف الجوفية.
يعتقد البعض أن عمر الأنفاق والمدن الجوفية يعود إلى الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر قبل الميلاد، وينسب لقبائل الحيثيين استخدام الأنفاق للاختباء من الغارات الفريجية، ويشير أولئك الذين يؤيدون هذه النظرية إلى الرواية التاريخية للحرب بين قبائل الحيثيين وقائبل الفريجيين، إلى جانب وجود عدد صغير من القطع الأثرية ذات الصلة بقبائل الحيثيين الموجودة في الأنفاق. فيما اقترح آخرون أن تلك الآثار كانت خاصة بالفريجيين ووجدت لدى قبائل الحيثيين عندما حصلوا عليها غنائم حرب، ولذلك يرجح أصحاب هذا الاعتقاد أن المدن الجوفية شيدت في الفترة ما بين القرن السابع والثامن قبل الميلاد على يد الفريجيين.
ويوجد نظرية أقل شعبية، وهي النظرية القائلة بأن المدن الجوفية تحت الأرض كانت من عمل الفرس، فذكرت بعض المخطوطات العسكرية القديمة قصصًا عن قائد فارسي عظيم أنشأ قصورًا ومساكن تحت الأرض لإسكان قطعان ورجال أثناء حروب الفرس واليونان القديمة، ولكن دون دلائل واضحة وقوية تكافح تلك النظرية كثيرًا وسط علماء التاريخ.
وتعد أقدم إشارة مكتوبة إلى مدن تحت الأرض في كابادوكيا، هي التي ذكرها الفيلسوف اليوناني القديم زينوفون في كتاب «أناباسيس» الذي كتبه في الفترة بين عامي 379 و371 قبل الميلاد، وتحدث فيه عن شعب الأناضول الذين يعيشون تحت الأرض في منازل محفورة كبيرة بما يكفي لعائلات بأكملها وطعامهم وحيواناتهم، بينما يعود هذا التضارب حول تاريخ من بنى المدن الجوفية وهويته، إلى أن المدينة كانت منحوتة من الصخور المتكونة بشكل طبيعي في الأساس منذ ملايين السنين؛ ولذلك فإن الطرق الأثرية التقليدية لتحديد تاريخ المدينة الواقعة تحت الأرض ستفشل في تمييز الأصول.
واختلف العلماء حقًّا فيما بينهم حول تاريخ بناء وهوية من قام بأعمال النحت، ولكنهم اتفقوا جميعًا على أن الغرض منها كان الحماية، وأنه من غير المحتمل أن تكون المدن الموجودة تحت الأرض مخصصة للسكن الدائم، أو حتى فترات الإقامة الطويلة، لكن من الواضح أنها بنيت للاختباء فيها وقت وقوع هجوم، ويمكنها أن تحمل أعدادًا كبيرة من الناس وحيواناتهم الأليفة، لفترات من الزمن، ولذلك صممت بأبواب صخرية عملاقة قد يصل وزنها إلى 300 كيلوجرام، تفتح وتغلق من الداخل فقط.
فر السكان المحليون إلى هذه الأنفاق قرونًا عديدة تحت تهديد الغزو، ولحماية أنفسهم من الغرباء بنوا أبوابًا حجرية ثقيلة ومصائد معقدة، فعلى سبيل المثال، خلال الفترة الرومانية، فر المسيحيون المضطهدون بأعداد كبيرة إلى بلدة جورين في كابادوكيا، وهناك علموا أنه يمكن بسهولة حفر الطفلة الناعمة وبناء منازل وكنائس في المداخن، ووسعوا الكهوف القديمة إلى مدن تحت الأرض وملاجئ ضخمة يمكن أن تؤوي الآلاف من البشر.
بدأت الغارات العربية على كابادوكيا في القرن السابع واستمرت حتى القرن العاشر، وخلال فترات عدم الاستقرار هذه، احتمى بها السكان وربما جرى بناء مجموعات كبيرة من الكهوف والأنفاق من صنع الإنسان أو توسيعها من الهياكل القائمة لاستخدامها ملاجئ، ومع ذلك، فقد ثبتت صعوبة تحديد مواعيد دقيقة للبناء.
وفي وقتنا الحالي، يمكن للسياح زيارة المنطقة والاستمتاع بها، وحتى أن يناموا في بعض الكهوف والمداخن، والتي جرى إعادة تشكيلها لتصبح فنادق غير مألوفة؛ فالمداخن الخيالية هي نتاج بيئاتها الساحرة، ومعجزة جرى صنعها منذ ملايين السنين، وفي طرفة عين مع مرور الوقت حوَّل البشر تلك المعجزة إلى منزل، فأصبحوا يختبئون في هذا السحر ويجعلونه ملاذًا لهم.
المصدر: ساسة بوست