أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع حديث عن الآثار هو مجموعة من الأوابد التاريخية القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب.
ومن الصعب تخيلها في قلب البحر، كبحر الإسكندرية في مصر الذي حولته التغيرات الناجمة عن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات على مر العصور إلى ما يشبه المنجم الذي يضم قطعاً فريدة للآثار الغارقة.
وتتنوع بين مخلفات أثرية إلى بقايا معابد وأعمدة لمنشآت قديمة وتماثيل، كما احتضنت مياهها أطلال مدينتي كانوب وهرقليون الغارقتين منذ القرن الثامن الميلادي، بحسب ما تحدث متخصصون لـ “اندبندنت عربية”.
والكنز الأثري الممتد إلى حقب زمنية وعصور مختلفة دفع عدداً من الأثريين المصريين إلى تبني فكرة إنشاء متحف للآثار الغارقة.
وعلى رغم مرور 25 عاماً على ذلك المقترح فإنه دائماً ما كان يصطدم بمعوقات تؤجل عملية تنفيذه، منها الكلفة الباهظة وصعوبة الحصول على موافقات أمنية لما تمثله تلك المواقع من أهمية عسكرية، إضافة إلى البعد الاجتماعي المتمثل في وجود تخوفات من إجلاء الصيادين عن تلك المناطق.
ربع قرن من البيروقراطية
يقول متخصص التراث بمنظمة “إيسيسكو” والرئيس الأسبق للإدارة المركزية للآثار الغارقة في مصر أسامة النحاس، في تصريحات خاصة، إن فكرة إنشاء متحف للآثار المغمورة بالمياه حازت اعتماد “يونيسكو” ووزارة الآثار المصرية، لكن إجراءات التنفيذ كانت تتعطل بشكل مستمر على رغم إعداد دراسة الجدوى الخاصة بالمشروع، مشدداً على أن الفكرة لا تزال واعدة لكنها تنتظر الفرصة المناسبة للانطلاق.
وكان مؤتمر “يونسكو” الذي انعقد عام 1997 تبنى في توصياته مشروع إنشاء المتحف بموقع فنار الإسكندرية القديم إلى الشمال من قلعة قايتباي، لكن تلوث المياه في تلك المنطقة حال دون الوصول إلى حلول بدء المشروع.
ويضيف النحاس الحاصل على دكتوراه في هندسة الموانئ القديمة من جامعة لوفين ببلجيكا، أنه جدد طرح المشروع بإضفاء تعديلات عليه عام 2010، من خلال تقديمه تصوراً لإنشاء مركز متكامل للآثار الغارقة يضم متاحف للمنتشلات تعرض محتوياته على مساحة 17 ألف متر مربع بقلعة قايتباي، لا سيما أن المنطقة غير مستغلة سياحياً، إضافة إلى إنشاء مركز حرف تراثية بحرية وآخر للواقع الافتراضي وحديقة متحفية تحت المياه.
ويؤكد أيضاً صدور قرار من المجلس الأعلى للآثار المصرية عام 2011 ببدء التنفيذ، لكن الفكرة أرجئت حتى عام 2017 بسبب الأزمات الداخلية التي واجهت البلاد، ثم طفت على السطح مرة أخرى بصدور قرار آخر عام 2017 بتشكيل لجان لدرس المشروع إلا أن العمل توقف عام 2018 نتيجة الظروف الاقتصادية على رغم الانتهاء من دراسة الجدوى.
ويشار إلى أن إدارة الآثار الغارقة تأسست عام 1996 بقرار من المجلس الأعلى للآثار المصرية.
ويكشف الرئيس الأسبق للإدارة المركزية للآثار الغارقة، “أجرينا عدداً من الحفائر في البحر الأحمر والمتوسط ونهر النيل وبحيرة قارون، والقطع الأثرية تصل أعدادها إلى 50 ألف قطعة ما بين مسجلة ومخصصة للدراسة، وخلال العمل من عام 1994 وحتى الآن استخرجنا معظم التماثيل الضخمة، وبدأت تنطلق معارض الآثار الغارقة المصرية خارجياً بحلول عام 2005 محققة إيرادات جيدة”.
تنتمي الآثار الغارقة بالإسكندرية إلى حضارات متنوعة (وزارة الآثار المصرية)
وتولى النحاس مسؤولية الإشراف على عمليات توثيق ومسح لمواقع سفن الحرب العالمية الأولى والثانية سواء البحر المتوسط أو الأحمر، وحول نتائج تلك المهمة يؤكد اكتشاف سبعة مراكب متضمنة الأسلحة، مشيراً إلى عدم انتشالها حتى الآن إذ لا تزال مغطاة بالرمال في أعماق البحار.
وكان الغطاس الشهير كامل أبو السعادات أول مصري يتبنى قضية اكتشاف الآثار المغمورة بالمياه، عندما شارك في انتشال عدد من القطع الأثرية من موقع قلعة قايتباي.
وتبدأ قصة الكشوف الأثرية تحت البحر مع الإسكندرية عام 1910 عندما اكتشف كبير مهندسي الموانئ جاستون جونديه في ذلك الوقت أرصفة ضخمة لميناء كامل مغمور تحت سطح البحر خارج الميناء الغربي بين رأس التين وصخرة أبي بكر إلى الغرب.
حضارة تحت الماء
ويخبرنا رئيس جمعية اتحاد الأثريين العرب محمد الكحلاوي أن القطع الأثرية المستخرجة من شواطئ الإسكندرية تعرضت لعدد من الأضرار، مثل تشقق وتهشم أسطحها الخارجية نتيجة عدم معالجتها بطرق جيدة، مشدداً على ضرورة عدم انتشالها من أماكنها الأصلية طالما لم يتم استخدام المعايير المطلوبة لحماية ذلك التراث الفريد.
وتتماشى تلك الرؤية مع الدراسة العلمية قبل ثمانية أعوام التي أعدها المتخصص في ترميم الآثار المصرية محمد عبدالحافظ، ودق بنتائجها ناقوس الخطر بعدما كشف عن أن جميع الآثار المستخرجة من مياه الميناء الشرقي بالإسكندرية مصابة بالتلف الشديد نتيجة تلوث المياه بالمخلفات، وأوصى بعدد من المقترحات أهمها إعادة النظر في طريقة العرض للآثار المستخرجة من الحفائر البحرية، وعدم تركها في العراء من دون حماية.
وفقاً للدراسة فإن التقشر السطحي والشروخ والبقع والخشونة والإفرازات الحشرية والفقد في بعض الأجزاء والتنقيب والاستدارة من أبرز ملامح تلف القطع الأثرية، كما أظهرت نتائج التحليل بالأشعة السينية لعينات من قاعدة التمثال الغرانيتية ارتفاع نسبة كلوريد الصوديوم نتيجة عدم تعرض قاعدته لعمليات التحلية.
ويعود الكحلاوي للحديث عن أزمة أخرى تواجه قطاع الآثار المغمورة بالمياه قائلاً إن معظم المناطق الأثرية المغمورة بالمياه “لم تكتشف حتى الآن لعدم امتلاك مصر سفناً للمسح الأثري التي تتولى مهمات تحديد المواقع الأثرية بصورة دقيقة”، مشيراً إلى وجود دلائل تثبت أن ذلك التراث يمتد من أسوان أقصى جنوب مصر إلى السلوم على الحدود المصرية – الليبية.
ويشير الكحلاوي إلى مسائل تتعلق بالحماية، “فمن الأمور المستغربة عدم وضع كاميرات مراقبة تحت المياه مما يجعلها عرضة للسرقة من قبل عصابات الآثار وغواصين”، مشدداً على ضرورة العمل على التوثيق الكامل للمواقع المكتشفة من خلال تصوير كل القطع وأرشفة محتوياتها منعاً لعمليات التلاعب والنهب، مما يستلزم إجراء مسح أثري كامل للشواطئ المصرية الثلاث.
وكشف مصدر مطلع أن بعض الصيادين ارتكبوا عمليات سرقة للقطع الأثرية المغمورة بالمياه خلال السنوات الماضية في عدد من المناطق، منها البرلس ورشيد والإسكندرية (شمال)، مؤكداً أن إدارة الآثار الغارقة تتلقى بلاغات من الأجهزة الأمنية المعنية لإجراء معاينات.
ويقول المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه، “اكتشفنا في معظم تلك المعاينات أن المضبوطات عبارة عن قطع أثرية استخرجت من البحار”.
كشوف أثرية
من جانبه يشير مدير مركز الآثار البحرية بجامعة الإسكندرية وأستاذ كرسي “يونيسكو” للتراث الثقافي المغمور بالمياه عماد خليل إلى عدم وجود قيمة من الناحية العلمية لمتحف الآثار الغارقة بمفهومه الشائع، نظراً لأنه سيضم قطعاً أثرية “غير متجانسة”، مؤكداً أنه ينبغي الاقتداء بتجارب العالم المميزة، إذ يوجد ما يقارب 90 متحفاً بحرياً تركز على علاقة الإنسان بالبحار وترسم محتوياتها قصصاً ومعلومات عن الموانئ والحروب البحرية والتجارة والنقل ومهارة صناعة السفن والصيد.
ويؤكد أستاذ كرسي “يونيسكو” للتراث الثقافي المغمور بالمياه أنه يجب العمل على إنشاء أول متحف بحري لمصر يضم عناصر متجانسة، والاهتمام بإظهار العلاقة بين القطع الأثرية المعروضة وما يربطها ببعضها بعضاً، واستغلال تقنيات الواقع الافتراضي والاستشعار عن بعد بعرض القطع المختارة للزائرين من مواقعها الأصلية من دون انتشالها من المياه.
ويشير اتفاق “يونيسكو” في شأن حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه الذي اعتمد عام 2001 إلى ضرورة إعطاء الأولوية للمحافظة على التراث الثقافي المغمور بالمياه في موقعه الأصلي، على أن يسمح بانتشال القطع عندما يكون التراث مهدداً بالتعرض للضرر أو الدمار أو عندما تسهم استعادته في حمايته من النهب أو التضرر.
ويرى خليل أنه من الضروري تثبيت كاميرات في المواقع الأثرية البحرية أو تزويد عوامات حول تلك المناطق بأجهزة استشعار لرصد عمليات النهب والتصدي لها أو اللجوء لردم المواقع الأثرية المهمة بالرمال وإخفاء معالمها، مستعرضاً التجربة الكرواتية واتجاه الأجهزة المعنية بها إلى تغطية المواقع الأثرية المغمورة بالمياه بشباك حديدية.
كما انتقد الطرق المستخدمة للكشوف الأثرية البحرية مبدياً اندهاشه من الاعتماد على الأساليب البدائية، وقال “من غير المقبول عدم استعانة مصر بسفن مسح منظم للساحل والاكتفاء بعمليات الغطس لتحديد مواقع الكشوف الأثرية البحرية”.
وفي السياق كشف سليم أنطون مرقس في كتابه “حضارات غارقة” عن أهمية الآثار البحرية بمنطقة أبو قير المصرية لما تحويه من قطع بحرية تعود لنهاية القرن الـ 18 عندما حاصر نيلسون أسطول نابليون في خليج أبوقير، معتبراً أن ذلك الموقع يمثل ميداناً جديداً للكشوف الأثرية تحت البحر، عاقداً مقارنة بالإشارة إلى أن بعض الدول تمتلك مواقع حربية أقل أهمية من معركة أبو قير، لكنها تجذب هواة السياحة والتاريخ نتيجة الدعاية السياحية والقدرة على إبراز معالم الموقع.
فيما أكد لنا الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار محمد عبدالمقصود أن الاهتمام بإنشاء متحف للآثار الغارقة يعد من الأشياء المهمة لجذب السياح، لكنه يعرض فكرة جديدة قائمة على ترك الآثار المغمورة بالمياه في أماكنها الأصلية على أن تتم الاستفادة من موقع قلعة قايتباي المطل على البحر المتوسط لخلق شعور للزائرين بقربهم من البحر، مع استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد لعرض التراث البحري.
تمثل الآثار المصرية الغارقة ثروة للبلاد حال الاستثمار فيها (وزارة الآثار المصرية)
رد رسمي
وتواصلت “اندبندنت عربية” مع كبير الأثريين بالإدارة المركزية للآثار الغارقة محمد مصطفى عبدالمجيد لمعرفة أسباب تعطل المشروع وسبل حماية ذلك التراث الفريد، فأوضح لنا أن “الفكرة اتخذت مسارها الجاد عام 2006 عندما قدم المعماري الفرنسي جاك روجيري مقترحاً لإنشائه بطريقة تضمن حماية الزائرين”، موضحاً أنه كان ضمن مشروعين مقترحين وضعتهما “يونيسكو” على موقعها الرسمي عام 2002، وعلى رغم مرور ما يقارب 21 عاماً على ذلك التاريخ لم نقم باتخاذ إجراءات حاسمة لتنفيذ المشروع، في حين أن الصين أنشأته بعد سبع سنوات فقط”.
وكان متحف بايهيليانغ الصيني الذي أنشئ عام 2009 الأول من نوعه، إذ يسمح للزوار بالوصول إليه من دون الحاجة إلى الغوص، إذ أنشئ بدعم “يونيسكو” على سلسلة من التلال الحجرية يبلغ طولها 1600 متر وعرضها 15 متراً، فيما تقدر إجمال استثماراته 30 مليون دولار. ويمكن للسائحين من خلال 23 نافذة زجاجية مستديرة تحت الماء رؤية النقوش والمنحوتات السمكية التي أنشأها الصينيون القدماء على التلال.
كما يقدر مسؤول إدارة الآثار الغارقة الكلفة الإجمالية لإنشاء متحف الآثار بمنطقة الميناء الشرقي بنحو 250 مليون دولار، كاشفاً عن استقبالهم اتصالات من مؤسسات مالية بشرق آسيا بغرض التمويل على رغم تعطل المشروع.
وحول أعداد القطع الأثرية المغمورة بالمياه المكتشفة قال عبدالمجيد إنها “تصل إلى نحو 10 آلاف قطعة من الكتل الكبيرة والتماثيل، ونحو 12 ألفاً من ذوات الأحجام الصغيرة، فعلى سبيل المثال موقع الفنار يضم بمفرده 4250 قطعة أثرية”.
وعلق المسؤول المصري على أسباب عدم الاهتمام بتثبيت كاميرات مراقبة في تلك المواقع بأنها فكرة غير منطقية لعدم إمكان تغطية مثل تلك المساحات الشاسعة تحت المياه، إضافة إلى أنها تكلف الوزارة مبالغ طائلة من دون فائدة حقيقية.
ورداً على ما كشفت عنه مصادر من توثيق عمليات سرقة، شدد عبدالمجيد على عدم تسجيل عمليات اختفاء للآثار الغارقة سوى في منطقة المعمورة، إذ ضبطت تلك الأحراز وخضعت القطع المستردة للمعالجة داخل معامل الترميم.
وفي ما يتعلق بتأثر التماثيل المغمورة بالمياه بتلوث بحر الإسكندرية، فقد فسر الأمر بأن خليج أبو قير من أكثر المناطق الأثرية تضرراً من التلوث الصناعي الناجم عن مصنعي الأسمدة والورق، أما بقية الأماكن فهي جيدة نظراً إلى أنها كانت تتعرض لمياه الصرف فقط، في ظل انخفاض مستوياته منذ عام 1999.
ويقول محمد مصطفى، الذي اختير عام 2001 ضمن ست شخصيات لصياغة اتفاق “يونيسكو” لحماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، “قررنا عدم استخراج القطع الأثرية التي تزيد أوزانها على 200 كيلوغرام، بينما اضطررنا إلى انتشال الأوزان الخفيفة لحمايتها من عمليات السرقة أو تعرضها لأضرار نتيجة استخدام أدوات الصيد في تلك المناطق، إضافة إلى تسبب التيارات البحرية في تحركها من أماكنها الأصلية، متطرقاً إلى أهمية الاستعانة بسفن المسح الأثري لرسم خرائط واضحة للآثار المغمورة بالمياه، معتبراً أن توفير تلك الوسيلة يحتاج إلى جهة ممولة لديها القدرة على تحمل الكلف.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الاكتشافات الأثرية العديدة تسهم في إغناء تاريخ مصر العريق الغني عن التعريف.
المصدر: اندبندنت عربية