تدخل الذكاء الاصطناعي في جميع مجالات الحياة المتعددة، وقد ساهم بشكلٍ كبير في تقدم وتطور العملية العلمية.
وقد برز دوره جليّاً في عام 2019 في عالم الفضاء والفلك، إذ كشف فريق من العلماء عن الصورة الأولى الشهيرة للثقب الأسود العملاق الموجود في مركز مجرتنا درب التبانة.
وظهر الثقب الأسود في الصورة بخصائصه الحرارية وحافاته المظللة التي تنحني بالقرب منها أشعة الضوء المارة في الكون، وبدا الثقب مثل قرص متوهج باللون البرتقالي والأصفر والأسود، وهو يظهر كبقعة مظلمة أمام حلقة تضيء بشكل خافت.
ولكن الآن بفضل التطور الذي نشهده في تقنيات الذكاء الاصطناعي، تمكّن فريق العلماء خلال شهر أبريل 2023 من تحسين الصورة باستخدام خوارزميات التعلم الآلي لتصبح أكثر وضوحًا بمرتين.
إذ تُظهر الآن الثقب الأسود في مركز مجرة (M87) على أنه أعمق وأكبر من الصورة الأولى التي اُلتقطت أول مرة في عام 2019، وهذا التحسين له آثار مهمة على قياس كتلة الثقب الأسود.
ولكن الذكاء الاصطناعي ليس أمرًا جديدًا في علم الفلك، إذ يستخدمه علماء الفلك منذ عقود، ففي عام 1990؛ كان علماء الفلك في جامعة أريزونا الأمريكية هم أول من استخدم نوعًا من الذكاء الاصطناعي يُسمى الشبكة العصبية الاصطناعية (ANN) لدراسة أشكال المجرات.
منذ ذلك الحين، انتشر الذكاء الاصطناعي في كل مجالات علم الفلك، ونظرًا إلى أن التكنولوجيا أصبحت أكثر قوة وتطورًا، بدأت خوارزميات الذكاء الاصطناعي بمساعدة علماء الفلك بتحليل مجموعات البيانات الضخمة واكتشاف حقائق جديدة عن الكون.
1- تلسكوبات أفضل يعني بيانات أكثر:
كان الأمر في علم الفلك بسيطًا نسبيًا عندما كانت الأدوات الوحيدة المستخدمة هي العين المجردة أو تلسكوب بسيط، وكل ما يمكن رؤيته كان بضعة آلاف من النجوم وحفنة من الكواكب.
ولكن منذ مئة عام، استخدم إدوين هابل تلسكوبات طُورت حديثًا لإظهار أن الكون مليء ليس فقط بالنجوم وسُحُب الغاز ولكن أيضًا بعدد لا يحصى من المجرات.
مع استمرار تحسن التلسكوبات؛ زاد العدد الهائل من الأجرام السماوية التي يمكن للبشر رؤيتها وكمية البيانات التي يحتاج علماء الفلك إلى فرزها وتحليلها أيضًا.
على سبيل المثال؛ فإن مرصد (فيرا سي روبين) Vera C. Rubin الذي سيكتمل قريبًا في دولة تشيلي سيجعل الصور الملتقطة للفضاء كبيرة جدًا بحيث تتطلب 1500 شاشة تلفاز عالية الدقة لعرض كل واحدة في مجملها، وعلى مدى 10 سنوات؛ من المتوقع أن ينتج 0.5 إكسابايت من البيانات، أي ما يساوي 50000 ضعف كمية المعلومات الموجودة في جميع الكتب الموجودة في مكتبة الكونجرس الأمريكي.
وبذلك أصبحت خوارزميات الذكاء الاصطناعي هي الطريقة الوحيدة التي يمكن لعلماء الفلك أن يستخدموها في جمع البيانات المتاحة لهم اليوم وتحليلها، إذ إن الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل كميات كبيرة من البيانات بسرعة؛ لذلك يعتبر أداة مفيدة جدًا في صنع القرار عبر القطاعات المختلفة.
2- استخدام الذكاء الاصطناعي لتعرّف أنماط المجرات:
يمكن تمثيل معظم مهام علم الفلك الاستكشافية بمهمة البحث عن الإبر في كومة القش، إذ تحتوي نحو 99% من وحدات البكسل في الصورة الفلكية على إشعاع خلفي أو ضوء من مصادر أخرى أو سواد الفضاء، ونسبة 1% فقط توضح الأشكال الخفية للمجرات.
لذلك تُعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي – بالتحديد الشبكات العصبية التي تستخدم العديد من العقد المترابطة والقادرة على تعلم معرفة الأنماط – مناسبة تمامًا لتعرّف أنماط المجرات، وقد بدأ علماء الفلك باستخدام الشبكات العصبية لتصنيف المجرات في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والآن أصبحت الخوارزميات فعالة لدرجة أنها تستطيع تصنيف المجرات بدقة تصل إلى 98%.
تكررت هذه القصة في مجالات أخرى من علم الفلك، حيث يستخدم علماء الفلك الذين يعملون على مشروع (SETI) – وهو مشروع فلكي يهتم بالبحث عن ذكاء خارج الأرض – التلسكوبات الراديوية للبحث عن إشارات من حضارات بعيدة.
فقد قام علماء (الفلك الراديوي) Radio Astronomy قديمًا بمسح الرسوم البيانية بالعين للبحث عن الحالات الشاذة التي لا يمكن تفسيرها، ولكن في الآونة الأخيرة؛ استخدم الباحثون 150 ألف حاسوب للبحث عن إشارات الراديو الاصطناعية.
ويستخدم الباحثون الآن الذكاء الاصطناعي لفرز هذه البيانات بشكل أسرع وأكثر شمولًا، وقد سمح هذا لجهود العاملين في مشروع (SETI) بتغطية المزيد من الأرض مع تقليل عدد الإشارات الخطأ بشكل كبير.
مثال آخر؛ هو البحث عن الكواكب الخارجية، حيث اكتشف علماء الفلك معظم الكواكب الخارجية المعروفة البالغ عددها 5347 كوكبًا عن طريق قياس انخفاض في كمية الضوء القادم من نجم عندما يمر كوكب أمامه، ويمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي الآن تحديد علامات كوكب خارج المجموعة الشمسية بدقة 96%.
3- يساعد الذكاء الاصطناعي في إثبات الاكتشافات النظرية:
أثبت الذكاء الاصطناعي أنه حل ممتاز في تحديد الأشياء المعروفة؛ مثل: المجرات والكواكب الخارجية، ولكنه أيضًا قوي جدًا في العثور على الأشياء أو الظواهر التي وضعت نظريًا ولم تُكتشف بعدُ في العالم الحقيقي، إذ استخدمت فرق البحث هذا النهج لاكتشاف الكواكب الخارجية الجديدة، وتعرّف النجوم التي أدت إلى تكوين مجرة درب التبانة ونموها، والتنبؤ ببصمات أنواع جديدة من موجات الجاذبية؛ فقد أدى حدث إثبات موجات الجاذبية في عام 2015 إلى إثبات نظرية آينشتاين بعد مرور 100 عام على وضعها.
وأخيرًا، استخدم علماء الفلك الراديوي أيضًا خوارزميات الذكاء الاصطناعي لفحص الإشارات التي لا تتوافق مع الظواهر المعروفة، فقد اكتشف فريق من جنوب إفريقيا حديثًا جسمًا فريدًا قد يكون من بقايا اندماج اثنين من الثقوب السوداء الفائقة الكتلة، وإذا ثبت أن هذا صحيح، فستسمح البيانات باختبار جديد لنظرية النسبية العامة التي وصف فيها ألبرت أينشتاين مصطلح الزمكان.
4- يساعد الذكاء الاصطناعي في التنبؤ وسد الفجوات:
كما هو الحال في العديد من مجالات الحياة في الفترة الأخيرة، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي ونماذج اللغة الكبيرة مثل: ChatGPT تساعد أيضًا علماء الفلك، إذ استخدم الفريق الذي أنشأ الصورة الأولى للثقب الأسود في عام 2019 الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنتاج صورته الجديدة.
وللقيام بذلك، درب فريق العلماء نموذج الذكاء الاصطناعي على كيفية تعرّف الثقوب السوداء عن طريق محاكاة العديد من أنواع الثقوب السوداء له، وبعد ذلك استخدم الفريق نموذج الذكاء الاصطناعي الذي أنشأه لملء الفجوات في الكمية الهائلة من البيانات التي جمعتها التلسكوبات الراديوية عن الثقب الأسود M87.
وباستخدام هذه البيانات، تمكن الفريق من إنشاء صورة جديدة أكثر وضوحًا بمرتين من الصورة الأصلية وتتوافق تمامًا مع تنبؤات النسبية العامة.
يتجه علماء الفلك أيضًا إلى الذكاء الاصطناعي للمساعدة في التغلب على تعقيد البحث، حيث ابتكر فريق من مركز (هارفارد سميثسونيان) Harvard-Smithsonian للفيزياء الفلكية نموذجًا لغويًا يُسمى (astroBERT) لقراءة وتنظيم 15 مليون ورقة علمية حول علم الفلك.
كما اقترح فريق آخر من وكالة ناسا استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد أولويات مشاريع علم الفلك؛ وهي عملية يشارك فيها علماء الفلك كل 10 سنوات.
ومن المحتمل أن يساعد الذكاء الاصطناعي في اكتشافات الكون المستقبلية، بعد تحسن التلسكوبات، وزيادة حجم مجموعات البيانات، ومع استمرار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي المتوقعة.