منوعات

حقول الإنكا المتدرجة …قصة أكبر حضارة زراعية قامت على مر التاريخ (صور)

تعددت أساليب الزراعة وتنوعت في وقتنا الحاضر بالاعتماد على الآلات والمعدات الزراعية الحديثة.

فإلى جانب مهام الحراثة، يأتي استخدامها لأغراض الري، والحصاد وكذلك نثر البذور وزراعة الشتلات.

كما تستخدم أيضاً في زراعة المناطق الوعرة وصعبة الوصول إليها وزراعتها من قبل الإنسان.

إذا تمكنت من زيارة المواقع القديمة لحضارة الإنكا الشهيرة في جبال الأنديز، ربما يلفت نظرك تلك الحقول المتدرجة التي تتلوى على طول سفوح التلال.

وقد يثير إعجابك هذا المنظر رائع الجمال، لكن ما لا تعرفه أن هذه الحقول هي السبب وراء قيام أكبر إمبراطورية في تاريخ قارة أمريكا الجنوبية. فما القصة؟

جزيرة الشمس.. هنا بزغت حضارة الإنكا

في مقاطعة لاباز البوليفية، ووسط التضاريس الجبلية الوعرة، تقع على سفح جزء من جبال الأنديز بحيرة كبيرة وعميقة تسمى تيتيكاكا، التي يقال عنها أعلى بحيرة صالحة للملاحة في العالم، أي تسير فيها السفن التجارية، وهي أكبر بحيرات أمريكا الجنوبية، وترتفع 3812 مترًا فوق سطح البحر.

في الجزء الجنوبي من هذه البحيرة، تقع جزيرة صخرية جبلية وعرة التضاريس تسمى «جزيرة الشمس» أو «Isla del Sol» في تلك الجزيرة لا توجد سيارات أو طرق ممهدة، والنشاط الاقتصادي الرئيسي لما يقرب من 800 أسرة تقطن في الجزيرة هو الزراعة، بجانب صيد الأسماك والسياحة بشكل محدود.

الجزء السياحي في الجزيرة يتعلق بوجود العديد من الأطلال (أكثر من 80 منطقة حطام)، والتي يعود تاريخ معظمها إلى فترة حضارة الإنكا أو إمبراطورية الإنكا.

خلال القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، كانت هذه الجزيرة واحدة من أهم المواقع الدينية في أمريكا الجنوبية، كونها مسقط رأس الشمس والقمر وسلالة الإنكا، مما جعلها تجذب الحجاج إليها من جميع أنحاء جبال الأنديز.

لكن الشيء الأكثر أهمية حول هذه الجزيرة أنها تمثل نموذجًا واضحًا لعبقرية القدماء في التكيف مع الطبيعة الوعرة.

فهناك، توجد تلك التلال المترامية التي تضم مدرجات زراعية تتكيف مع الأراضي الصخرية شديدة الانحدار بشكل يثير الدهشة، حيث تكمن المعجزة الحقيقية التي أنتجت لنا حضارة الإنكا، الإمبراطورية الأكبر في تاريخ قارة أمريكا اللاتينية.

مدرجات الزراعة.. هكذا تغلبت مجتمعات الأنديز على الظروف القاسية

تعرف هذه الحقول المتدرجة المعروفة باسم «Andenes» (المنصات)، وهي منتشرة ليس فقط في جزيرة الشمس، بل تمتد عبر جبال الأنديز الوسطى.

شُيدت هذه المدرجات أول مرة منذ نحو 4500 عام، وقد شيدتها الثقافات القديمة في جميع أنحاء المنطقة.

لكن شعوب الإنكا في القرن الثاني عشر الميلادي، تمكنوا من إتقان صناعة هذه المدرجات، حتى أصبحوا أساتذة في تبني التقنيات والإستراتيجيات التي تستخدمها الشعوب الأخرى في المنطقة، وتكييفها وتطويرها بشكل أكبر.

من هنا، تمثل «Andenes» طريقة إبداعية لإنشاء المزارع والحقول بطرق غير تقليدية تتحدى التضاريس، مما يسمح بزراعة أنواع مختلفة وغير معتادة من المحاصيل.

ويمكن القول بأن هذا الإبداع في مجال الزراعة هو ما ساعد شعوب الإنكا على التطور وبناء إمبراطورية كبيرة وصلت إلى أقصى اتساع لها في القرن السادس عشر الميلادي.

سمحت هذه المنصات أو المدرجات لمجتمعات الأنديز بالتغلب على البيئات الصعبة، ومن بينها المنحدرات الشديدة، والتربة الرقيقة، ودرجات الحرارة الشديدة والمتقلبة بشكل حاد، وهطول الأمطار الموسمية أو الشح في سقوط الأمطار أحيانًا، وكانت تغذي هذه المدرجات الزراعية أحواض اصطناعية وأنظمة ري متقنة.

ساعدت تقنية مدرجات «Andenes» على توسيع مساحة الأراضي القابلة للزراعة بشكل كبير، وحافظت على المياه، وقللت من تآكل التربة.

وبفضل الجدران الحجرية التي تحيط بهذه المدرجات والتي تمتص الحرارة أثناء النهار ثم تطلقها في الليل، حمت تلك المدرجات النباتات من الصقيع الشديد.

كل هذا مكَّن المزارعين من زراعة عشرات المحاصيل المختلفة، من الذرة والبطاطس إلى الكينوا والكوكا، والتي لم يكن الكثير منها بإمكانه العيش والنمو في تلك المناطق.

وكانت المحصلة زيادة كبيرة في الكمية الإجمالية للأغذية المنتجة، حتى أن شعب الإنكا تمكن في القرن الرابع عشر، من تغطية مساحة مليون هكتار بهذه المصاطب الزراعية.

«محطة أبحاث زراعية».. براعة فنية وسط الجبال

بالإضافة لما سبق، تتميز مدرجات «Andenes» بوجود بعد فني مميز لها، فإذا نظرت إليها ستلاحظ وجود أنماط هندسية واسعة على جبال الأنديز، يبدو بعضها مثل سلالم خضراء عملاقة منحوتة في سفح الجبل، في حين أن البعض الآخر يتكون من مجموعات من الدوائر متحدة المركز، والتي تجذب الانتباه مثل الخدع البصرية.

أحد أكثر المواقع إثارة للإعجاب في هذه النقطة هو موقع «موراي» الأثري في بيرو، والذي يشبه المدرج أو المسرح الطبيعي.

يقع هذا المكان على بعد نحو 50 كم شمال عاصمة الإنكا السابقة «كوزكو»، ويرتفع مسافة 3500 متر فوق مستوى سطح البحر.

وعند تأمله، ستلاحظ كيف استخدمت تقنيات مميزة في إنشاء هذه المدرجات الزراعية لإنشاء مجموعة من المناخات المصغرة، أي إنشاء أنظمة مناخية مختلفة.

بفضل التصاميم والأحجام والأعماق والزوايا لهذه المدرجات، نشأ فرق في درجة الحرارة بين المنطقة العليا والسفلى بنحو 15 درجة مئوية.

ومن ثم، سمح هذا الموقع بزراعة أنواع مختلفة من المحاصيل، خاصةً وأن تربة هذا الموقع كانت تحتوي على أنواع مختلفة من التربة التي جمعت من كافة أراضي الإمبراطورية، ويعتقد باحثون أن هذا الموقع كان يعد «محطة أبحاث زراعية»، حيث استخدم لتدجين المحاصيل وتهجينها.

المدرجات الزراعية وإمبراطورية الإنكا

لعبت التقنيات الزراعية المتطورة مثل مدرجات «andenes» دورًا حيويًّا في توسيع إمبراطورية الإنكا، التي امتدت إلى مناطق كبيرة من بيرو، وغرب بوليفيا، وجنوب غرب الإكوادور، وجنوب غرب كولومبيا، وشمال غرب الأرجنتين، وشمال تشيلي في أوج توسعها بالقرن السادس عشر.

بعد استيلاء إمبراطورية الإنكا على منطقة أو أراضي جديدة، كانت توسِّع مساحة الأراضي الزراعية من خلال جلب المهندسين المهرة، الذين كانوا يحفرون قنوات الري ثم يسوُّون الحقول ويربِّعونها حتى يمكن توزيع مياه الري بشكل ملائم.

هؤلاء المهندسون استطاعوا بناء المصاطب والمدرجات الزراعية على الجبال وسفوح التلال، حيثما كانت التربة جيدة، وبهذه الطريقة يزرع التل بأكمله تدريجيًّا، بعدما تجري عملية تسطيح المصاطب مثل السلالم في الدرج واستخدام جميع الأراضي الصالحة للزراعة والري.

بعد ذلك، كانت تقسم الأراضي المستصلحة حديثًا إلى ثلاثة أجزاء؛ جزء يمنح لإمبراطور الإنكا؛ والثاني يمنح للأغراض الدينية؛ والثالث للمجتمع نفسه.

الجزء الأخير كان يؤخذ أراضي منه لتوزع على القادة المحليين في المنطقة التي توسعت فيها الإمبراطورية حديثًا.

وعلى الرغم من عدم فرض ضرائب عليهم، فقد طلب من المزارعين قضاء بعض الوقت في العمل في أراضي الإمبراطور والأراضي الدينية، بجانب العمل في أراضيهم الخاصة.

كما أنشأت الإنكا سياسات تشبه الخدمة العامة الإلزامية المستخدمة لتوفير القوى العاملة لبناء البنية التحتية في المناطق الجديدة.

إذ كان ينقل بعض الناس إلى الأراضي الجديدة بهدف شق شبكة طرق يبلغ طولها عشرات الآلاف من الكيلومترات، على سبيل المثال.

سمح هذا النهج تجاه التنظيم الزراعي والمجتمعي والإمبراطوري للإنكا؛ بتكديس فوائض كبيرة من الطعام لاستخدامها خلال فترات الجفاف والفيضانات والصراعات وفترات العجاف الأخرى، وجرى الاحتفاظ بهذه المخزونات التي تضمنت البطاطا المجففة في مخازن ضخمة تسمى «القلقاس» أو «qullqas».

المستعمرون الإسبان والقضاء على حضارة الإنكا

في نهاية المطاف، ساعدت هذه المدرجات مع أنظمة التخزين على توسيع الإمبراطورية التي سيطرت في النهاية على مساحة كبيرة من أمريكا الجنوبية، شملت 12 مليون شخص.

لكن وصول الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر أدى إلى إطاحة حضارة الإنكا وتراجع نظام المدرجات الزراعية.

أدى العنف الذي استخدمه المستعمر إلى انتشار الأوبئة والأمراض، بجانب التهجير القسري، مما تسبب في تدمير السكان الأصليين في جبال الأنديز الوسطى.

ومع الوقت، دخلت المحاصيل والممارسات الزراعية الأوروبية إلى تلك المناطق بدلًا من نظام المصاطب الذي تعرض للإهمال وتدمر الكثير منه.

ومع ذلك، لم تختفِ المصاطب تمامًا.

بالاعتماد على المعرفة المتوارثة عبر الأجيال، يواصل العديد من مزارعي الأنديز استخدامها حتى اليوم، وهو ما يمنح تلال الأنديز الوسطى وجبالها حتى اليوم تلك المناظر الخلابة للمصاطب والمدرجات.

وفي السنوات الأخيرة، كان هناك أيضًا اهتمام أكاديمي متجدد بـ«Andenes» بوصفها شكل من أشكال الزراعة المستدامة التي يمكن أن تساعد العالم على التعامل مع أزمة المناخ وندرة المياه وتآكل التربة؛ إذ تصف منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، على سبيل المثال، ثقافة المصاطب والمدرجات الزراعية بأنها واحدة من أفضل الأمثلة على معرفة المزارعين وتكيفهم مع بيئتهم.

كما يتم استخدامها إدارة المياه، وحماية التربة، والتنوع البيولوجي للمحاصيل، واستخدام الأراضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى