لقد عرفت مكة سابقاً بلونها الأسود، وصمودها في مقاومة كل الظروف القاسية التي مرت بها سنوات عديدة، واعتاد الجميع عليها قوية جامدة، وفجأة نراها خضراء تسرّ أعين الناظرين، وتضج المجالس بذكرها!
“وما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال”، كيف تحولت “جبال مكة” في السعودية التي عرفت بلونها الأسود حيث يدخل في تكوينها، البازلت الأسود والصخور النارية التي تستطيع مقاومة عوامل التعرية، إلى اللون الأخضر؟
انتشرت صور ومقاطع مصوّرة لجبال مكة في السعودية، تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي تحت هاشتاج “ربيع مكة”، حيث ازدانت الأرض الخضراء بحبيبات المطر المتلألئة، التي استمر هطولها في الأسابيع الماضية، مما جعل وكالات الأرصاد والفضاء وعشاق التصوير يتسابقون إلى توثيق المشاهد غير المألوفة لعقود.
أهالي المنطقة كانوا أكثر المنشغلين بالظاهرة الجديدة عبر التنزه والاستمتاع بالمناظر الخلابة، إذ لم يمر قاطنو المنطقة بالجبال مرور الكرام كسابق عهدهم، بل استثمروا جمال الطبيعة في إمتاع الأنفس بـ”الكشتات والتخييم”، إذ وصفت نهى محمد وضعها النفسي بأنه يشبه “روح السفر” إلى الخارج، وهي في حدود منطقة مكة المكرمة من أثر جمال الطبيعة والطقس، قائلة “الجبال التي كنا نمر بالقرب منها أصبحت وجهتنا، واستبدلنا فسحتنا إلى المطاعم والمقاهي بالذهاب إلى الجبال ووديانها الخضراء التي تشهدها مكة المكرمة وضواحيها، سهلاً وجبلاً”.
ووصف هشام محمد تحول الطبيعة الصخرية ذات اللون البني إلى خضراء بـ “المبهر” الذي يسر الناظرين، خصوصاً وهو يتأمل هذه المناظر يومياً بحكم طبيعة عمله بين مكة وجدة.
ظاهرة نادرة منذ عقود
وقالت لينا ماهر إن هذا التحول العجيب في جبال مكة بعد اكتسائها باللون الأخضر عقب هطول الأمطار الكثيفة على المنطقة، أغنانا عن كل الأماكن الجميلة في جدة، و”أصبح افتراش الأرض الخضراء وشرب كوب من الشاي مع الأهل أو الصديقات من أجمل الفسح”.
بينما أكدت صباح عبدالله أنها لم تشاهد هذه المناظر من قبل، قائلة “بلغت العقد السادس من العمر ولكني لم أشاهد هذه المناظر الجميلة من قبل في منطقتنا، ولدي رغبة الذهاب إليها والعودة مراراً وتكراراً للاستمتاع بها”.
وأرجع مدير المراعي في المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر مشعل الحربي أسباب الخضرة التي تكتسي بها جبال منطقة مكة إلى الحالات المطرية المتتابعة التي شهدتها المنطقة لأيام عدة والتي ساعدت على النمو السريع والكثيف للأعشاب الحولية والربيعية.
وقال “تكتسي الجبال في منطقة مكة المكرمة هذه الأيام رداء أخضر من الأعشاب الربيعية وذلك بعد موسم هطول أمطار غزير، بحيث سجل شهرا نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) الماضيين أعلى موسم مطير على منطقة مكة المكرمة منذ عقود من الزمن”.
وأشار خلال حديثه إلى أن تقارير المركز الوطني للأرصاد في السعودية سجلت أعلى كمية هطول أمطار في تاريخها في هذه المنطقة، إذ “وصلت كمية الهطول خلال ساعات معدودة إلى 184 ملم في مدينة جدة التابعة لمنطقة مكة المكرمة وذلك يوم الخميس 23 نوفمبر 2022”.
واعتبر أن اعتدال درجات الحرارة على منطقة مكة المكرمة في هذا الموسم، ساعد هو الآخر على “النمو السريع والكثيف للأعشاب الحولية والربيعية وهي صفة معروفة عن نباتات المناطق الجافة بهدف استكمال دورة حياتها وطرح بذورها من جديد قبل أن تشتد درجات الحرارة والجفاف، وهذا الغطاء الأخضر له جانب جمالي في المنطقة وجذب الناس للخروج إلى المواقع البرية للاستمتاع بنباتاتها وأجوائها”.
ظاهرة بيئية أو إشارة دينية
المشاهد الجميلة على رغم تفسيرها البيئي، إلا أن بعضهم أرجعها إلى أنها ذات دلالة دينية، في إشارة إلى روايات تتحدث عن عودة الجزيرة العربية لخضرتها الأولى التي كانت قبل آلاف السنين.
وأوضح إمام وخطيب جامع معاوية بن أبي سفيان في حفر الباطن الدكتور عبدالله الظفيري أن ما نشاهده في هذه الأزمان من عودة جزيرة العرب لمروج وزروع وكثرة أمطار ومسطحات خضراء، كان من بين أمور حدثت وستحدث في التاريخ، كان نبينا عليه الصلاة والسلام أخبر بوقوعها.
وأشار إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً”.
من جهته، أوضح نائب رئيس جمعية الطقس والمناخ عبدالله المسند عبر حسابه الشخصي في “تويتر” أن المشاهد التي يعايشها الناس كلما كثرت الحالات المطرية، كما حدثت الآن والتي بدأت الخميس 29 ديسمبر 2022 على أجزاء واسعة من السعودية، هي عبارة عن صورة ومشهد لما كانت عليه أرض العرب في آخر عصر الهولوسين عندما كانت الرياح الموسمية الجنوبية الرطبة نشطة وتبلغ أواسط أرض العرب وتجلب الأمطار في فصل الصيف، مشيراً إلى أن بعض الناس يدندن حول عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً، والسؤال هل العودة ستكون بهذا الشكل المناخي؟
وقال المسند “نحن نؤمن أن جزيرة العرب ستعود كما كانت قبل نحو 7000 سنة مروجاً وأنهاراً وبحيرات وحشائش وغابات ولكن لا نعلم على وجه الدقة من أي بوابة ستكون العودة؟ ووفقاً لأي سيناريو مناخي؟ ومتى؟ وتلك الحقبة التاريخية الموغلة بالقدم كانت مراكز الضغط الجوي آنذاك مختلفة عن الوقت الحالي، وكانت الرياح الشمالية الحارة والجافة التجارية ضعيفة، لمصلحة قوة الرياح الجنوبية الرطبة الموسمية”.
تغير مناخي بحت
وقال الأكاديمي المتخصص في البيئة فرحان الجعيدي إن الظاهرة المناخية التي تشهدها دول الخليج ليست بسبب تحولات مدارية ولكن هناك تذبذباً مناخياً طبيعياً فنظام المناخ نظام معقد لا يزال العلماء يطورون النماذج الرياضية التي تساعد في فهم ديناميكيته.
وأضاف أن التغير المناخي سنة من سنن الكون ولكنه بطيء جداً، وقال هناك من لا يعرف جزيرة العرب، فبعضهم ربما يخال أن هذه الرقعة الشاسعة من الأرض كانت صحراء منذ الطور الجيولوجي الأخير الذي تكونت فيه اليابسة في شكلها الحالي، لكن الآثار الجيولوجية تشير إلى عكس ذلك، ففي الصحراء العربية دلائل على أنها كانت خضراء بالكامل وأن أمطارها كانت غزيرة، وكذلك أنهارها وبحيراتها، ولوفرة مياهها وخضرة طبيعتها عاشت في هذه الرقعة حيوانات متنوعة من التي تعيش في الأدغال، كالأسود والفهود والغزلان والزرافات، فضلاً عن التماسيح وفرسان النهر، وبعضها لا تزال بقايا هياكلها العظمية متناثرة في الصحراء القاحلة اليوم.
ولفت الجعيدي إلى دراسات عدد من العلماء أكدوا أن أحد أسباب التغير المناخي الذي قلب الصحراء خضراء ثم أعادها صحراء مجدداً، انحراف دوري في محور الكرة الأرضية يؤدي إلى تغيير في انحناءة الكوكب، فتتبدل قوة الشمس التي تضرب بقعة معينة من الأرض وينتج من التغيير الشمسي، تغيير مناخي.
وشرح أن “انحراف محور الأرض قبل حوالى 9 آلاف عام، أدى إلى انتقال أمطار خط الاستواء شمالاً، فانتعشت أراضي شمال أفريقيا والجزيرة العربية، ودامت خضراء إلى أن عاد محور الأرض إلى موقعه السابق قبل حوالى 5500 عام، فعادت الأمطار من الشمال إلى الاستواء وجفت الأرض شمالاً وعادت أراضي شمال أفريقيا وجزيرة العرب صحراء قاحلة”.
فرصة لتنمية الغطاء النباتي
وقبل ثمانية أشهر شرعت هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة في العمل على إطلاق مبادرات عدة للإسهام في حماية البيئة والحد من التدهور البيئي في جميع أرجاء المنطقة وذلك من خلال العمل بالشراكة مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، مما أنتج مبادرة “أخضر مكة” بهدف زيادة الغطاء النباتي واستصلاح الأراضي المتدهورة وحماية الموائل الطبيعية، إلى جانب رفع الالتزام البيئي والاستفادة من مصادر المياه.
وتسعى المبادرة خلال الأعوام الثلاثة المقبلة إلى الاستدامة البيئية، وذلك بالتعاون مع مجموعة من الشركاء والجهات ذات العلاقة لصنع تحول واقعي في منطقة مكة المكرمة من خلال تهيئة بيئة صحية لسكان المنطقة ومحافظاتها وضواحيها من انعكاسات غياب الغطاء النباتي، إضافة إلى رفع الوعي المجتمعي وتفعيل مشاركة الأفراد في استدامة الغطاء النباتي.
وتستهدف المبادرة إعادة تأهيل النبات الطبيعي على مستوى المنطقة وتنميته، إلى جانب الحد من التدهور في مناطق المراعي والغابات والأودية وتطوير المتنزهات الوطنية بالاستغلال الأمثل والمستدام للموارد الطبيعية المتاحة، مـن مـصـادر المياه المتجددة، كالاستفادة من مياه الأمطار والبحيرات والسدود ومياه الصرف الصحي المعالجة والـحـد مـن ظـاهـرة التصحر وانـجـراف التربة وزحـف الرمال وفقدان وسائل الحياة الفطرية والإسهام في التكيف مع التغير المناخي.
تكتمل مظاهر الجمال، وتتألق الطبيعة عند هطول الأمطار، فهي رمز العطاء وسخاء السماء، ودعوة إلى تجديد النفوس.