منوعات

لم يترك طريقة احتيال تعتب عليه ..قصة المحتال الذي باع برج إيفل لتجّار الخردة

يسبق لقب الكونت أسماءَ النبلاء والشخصيات المرموقة ذات الثراء والطبقة المخملية في المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى.

وفي عام 1936، تم إلقاء القبض على الكونت “لوستج”، في سجن إفرادي معزول في جزيرة الكاتراز من خليج سان فرانسيسكو.

وكان ذلك بعد أن اعترف الجميع أنه أخطر محتالٍ في أمريكا وربما في العالم، وكان يبلغ من العمر حينها 46 عاماً!

فكيف تمكن هذا الرجل من بيع برج إيفل مرتين، وكيف كاد أن يتسبب في زعزعة ثقة العالم بالدولار الأمريكي، وأخيرًا كيف خدع العالم حتى بعد موته؟

لم يترك طريقة احتيال تعتب عليه… استخدمها جميعًا!

استخدم “لوستج” خلال مهنته في الاحتيال والتزوير قرابة 47 اسماً مستعاراً وحمل عشرات من جوازات السفر المزيفة، وكان يتحدث خمس لغات مختلفة بطلاقة.

كما مارس عمليات تزوير الأوراق النقدية ببراعة منقطعة النظير، وكان في كل مرة يستطيع الهرب من القانون كأنه مجرد شبح.

ولم تقتصر حيله ومخططاته التي حقق من خلالها ثراء سريعاً على الولايات المتحدة، بل امتدت لتشمل بقاعاً مختلفة من العالم.

ففي باريس على سبيل المثال، احتال مرتين على أشخاص أقنعهم أنه يمتلك برج إيفل، وباعهم إياه بمبالغ ضخمة.

ولم تحن نهايته إلا بعد أن دبر عملية أوراق نقدية مزيفة واسعة النطاق لدرجة أنها هددت بزعزعة الثقة في الاقتصاد الأمريكي، حيث تمكنت الشرطة أخيراً من الإمساك به في عام 1935، وحكم عليه بالسجن 20 عاماً في جزيرة الكاتراز.

شبكة من الأكاذيب جعلت الحقيقة تضيع:

خلق الكونت “لوستج” شبكة كثيفة من الأكاذيب حوله لدرجة أن هويته الحقيقية لا تزال محاطة بالغموض حتى اليوم.

في السجن، أطلق عليه زملاؤه والمسؤولون لقب “روبرت ف. ميللر”، والذي كان أحد أسمائه المستعارة الكثيرة.

ولطالما ادعى الرجل المخادع أنه ينحدر من سلالة عريقة من الأرستقراطيين الذين يمتلكون قلاعاً أوروبية، وحرص دائماً على أن يبدو بمظهر الرجل المحترم والنبيل، لكن الوثائق المكتشفة حديثاً تظهر أن بداياته كانت متواضعة.

في مقابلات السجن أخبر المحققين أنه وُلد في بلدة هوستيني النمساوية المجرية في 4 يناير 1890، وقد تفاخر أن والده كان عمدة المدينة.

لكن في أوراق السجن التي تم الكشف عنها مؤخراً، وصف والده ووالدته بأنهما “أفقر الفلاحين” وقد ربياه في منزل قاتم مبني من الحجر.

بداياته في عالم الاحتيال:

ادعى “لوستيج” بعد اعترافه بفقر والديه، أنه كان يسرق من أجل البقاء، وأنه لم يستهدف سوى الأناس الجشعين وغير الأمناء وفقاً لما ورد في مجلة Smithsonian.

في أوائل القرن العشرين عندما كان مراهقاً، بدأ بالتسلسل في السلم الجنائي، إذ كانت بداياته عبارة عن عمليات نشل صغيرة توسع نطاقها لتشمل السرقة ثم الاحتيال على مستويات رفيعة لاحقاً.

وقد كان يتقن جميع حيل الخداع البصري مع وصوله إلى سن الرشد، خصوصاً ألعاب الخفة والخداع باستخدام البطاقات.

أدرك “لوستج” منذ بداياته في الاحتيال أن الأثرياء محدثي النعمة هم من أسهل الفرائس على الإطلاق، فكان أحدهم أولى ضحاياه حيث قام بالنصب على أحد ركاب الدرجة الأولى في إحدى السفن المتجهة إلى الولايات المتحدة.

ثم وصل إلى الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، واتخذ منها مركزاً لتنفيذ عمليات الاحتيال اللاحقة، وسرعان ما أصبح مطلوباً للشرطة في قرابة 40 مدينة أمريكية، وبسبب تعدد أسمائه كان يعرف بلقب “ذي الندبة” وذلك لوجود ندبة واضحة على خده الأيسر.

وبالرغم من أن “لوستج” كان “محتالاً مسالماً”، إذ لم يحمل مسدساً قط، إلا أنه مع ذلك أعيا الشرطة لفترة طويلة.

خدعة صندوق المال الروماني:

منذ أن نجح “لوستج” في خداع ذلك الثري محدث النعمة على متن السفينة، بدأ بتنويع أساليبه، فتارة ينظم فعاليات وهمية مثل سباق الخيول، وتارة يبيع عقارات غير موجودة، ويجمع أموالاً لاستثمارات وهمية ضخمة.

لكن لعل أبرز الطرق التي جعلته مليونيراً كانت خدعة “صندوق المال الروماني” الذي ادعى أمام ضحاياه أنه يستطيع نسخ المال من خلاله باستخدام إشعاعات الراديوم، وهكذا كان يأخذ منهم أموالاً حقيقية ثم يعيد لهم نقوداً مضاعفة لاحقاً لكنها جميعها مزيفة.

برج إيفل معروض للبيع!!

وصل “لوستج” في عام 1925 إلى باريس، حيث أقام بأحد أشهر الفنادق وأعلاها تكلفة، وقدم نفسه على أنه مسؤول رفيع الشأن في الحكومة الفرنسية؛ ومن هناك كتب إلى كبار العاملين في صناعة الخردة المعدنية، ودعاهم إلى الفندق لحضور اجتماعٍ خاص.

بدأ خطابه بلهجة شديدة الجدية حيث قال “بسبب الأخطاء الهندسية والإصلاحات المكلفة والمشاكل السياسية التي لا يمكنني مناقشتها، أصبح هدم برج إيفل إلزامياً”، وبناء على ذلك أعلن أن البرج سيباع لمن يدفع السعر الأعلى.

لم يتوارد الشك إلى ذهن أحد من الحاضرين والذين يملكون جميعهم رؤوس أموال ضخمة، فكل شيء في مظهر “لوستج” يوحي أنه شخص نبيل وبدا حديثه مقنعاً للغاية، فبدأت العروض تنهال عليه.

وهكذا وبكل ثقة وجرأة تمكن “لوستيج” من بيع برج إيفل مرتين على التوالي بمبلغ ضخم أضافه إلى ثروته الهائلة.

كاد أن يتسبب بكارثة للدولار الأمريكي:

مارس “لوستج” تزوير النقود على نطاق واسع جداً، حتى إنه خدع عمدة تكساس شخصياً بصندوقه الروماني وأعطاه نقوداً مزيفة.

وبالتعاون مع أحد المزورين من أفراد العصابات استطاع لوستج تطوير نقود مزيفة لا يستطيع حتى صرافو البنوك تمييزها.

وقد زور كمية هائلة من النقود حتى أن أحد قضاة التحقيق علق قائلاً: ” كان هناك مخاوف من أن سلسلة من الأوراق النقدية المزيفة بهذا الحجم الكبير يمكن أن تزعزع الثقة الدولية في الدولار”.

والمشكلة أن “لوستج” كان بارعاً جداً في التخفي، إذ يظهر أحياناً في زي كاهن وأحياناً أخرى بزي مصرفي وأحياناً بزي عتال، وفي كل مرة تقترب الشرطة من الإمساك به، كان يستطيع الهروب من الفندق الذي يقيم فيه، حتى إنه كان يتمكن من أخذ حقائبه معه.

نهاية القصة:

الإمساك بمحتال بحجم “لوستج” كان شرفاً كبيراً لأي من المحققين الذين تولوا مسؤولية البحث عنه، لكن في النهاية نال هذا الشرف عميل الخدمة السرية “بيتر إيه روبانو” الذي كرس حياته للقبض على “لوستج” منذ عام 1930، وبعد مرور خمس سنوات حصل على مراده أخيراً.

ففي عام 1935 تمكن رجال الشرطة من القبض على “لوستج”، ووضع العميل “روبانو” القضبان في يديه شخصياً.

لكن هذا الانتصار العظيم لم يدم طويلاً، فقد تمكن الداهية “لوستج” من الهرب من مركز الاحتجاز المنيع في منهاتن، بعد أن صنع حبلاً من ملاءات السرير، وقطع قضبان النافذة وتأرجح منها حتى سقط على الأرض وفر هارباً.

لكن الشرطة استطاعت ثانية الإمساك به بعد تحديد موقعه ومطاردة بالسيارات انتهت باصطدام سيارة الشرطة بسيارة “لوستج” والقبض عليه أخيراً.

وهكذا خضع “لوستج” للمحاكمة في نوفمبر 1935، وقد ذكر الصحفيون أن أحد العملاء في الخدمة السرية توجه له بعد محاكمته قائلاً: ” كونت، أنت أفضل رجل محتال عاش على وجه الأرض على الإطلاق”.

خدع العالم حتى بعد وفاته:

حكم بالسجن على “لوستج” لمدة 20 عاماً واقتيد إلى جزيرة الكاتراز، هناك حيث قدم ما يزيد عن 1192 طلباً لنقله إلى المشفى بحجة حالته الصحية المتردية مزوداً طلباته بما يزيد عن 507 وصفات طبية أعطاها له أطباء السجون، لكن كل تلك المحاولات كان ينظر لها على أنها محاولة للهرب.

وفي عام 1947 ساءت حالته الصحية فعلاً وتوفي نتيجة إصابته بالتهاب رئوي.

وبعد وفاته استقطبت قصته اهتمام المؤرخين الذين راحوا يبحثون عن أثر له في بلدة هوستيني النمساوية، وتأكدوا من أنه لم يولد هناك قط.

لذلك وحتى اليوم، لا يعرف أحد أي معلومة حقيقية عن هوية الكونت المخادع، لكن يعترف العالم أنه من أكثر المحتالين براعة في التاريخ، ومن المثير للسخرية أن مسؤولي السجن لم يعرفوا ما هي وظيفته الحقيقية لتسجيلها في وثيقة وفاته فكتبوا “بائع مبتدئ”.

وحتى أنهم لم يتمكنوا من التأكد من كونه ينحدر من سلالة عريقة أم أنه أطلق على نفسه اللقب احتيالاً أيضاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى