بين ليلة وضحاها ظهور مدينة سورية لفتت أنظار العالم ووجدوا داخله أقدم نصب تذكاري في التاريخ، وتعتبر المنطقة التي تم الاكتشاف فبها من المناطق التي مرت عليها حضارات كثيرة تركت كل منها بصمتها المختلفة.
ولازالت الكثير من الأسرار مدفونة تحت عتباتها وتنتظر اليوم الذي يتم اكتشافها من قبل المختصين.
وتناقلت وسائل الإعلام العالمية خبرا يقول بأن مدينة “تل البنات” السورية تحتضن نصباً ميدانياً كبيراً،قد يكون أقدم نصب تذكاري حربي معروف حتى يومنا في العالم.
يُعرف هذا النصب بـ”النصب الأبيض”، وهو اليوم غير مرئي، فقد غمرته المياه بعد انشاء “سد تشرين” في السنوات الأخيرة من القرن الماضي،
غير أنه عاد إلى الواجهة حين نشرت مجلة “أنتيكويتي” التابعة لجامعة كامبريدج مؤخرا دراسة علمية مطولة خاصة به،وقد أثارت هذه الدراسة الصحافة البريطانية، وتبعتها سريعا الصحافة الأوروبية والأميركية.
تقع مدينة سورية أثرية اسمها تل البنات في منطقة “عين العرب”، في ناحية صربين، في الطرف الشرقي من محافظة حلب، على الحدود مع تركيا.
على مسافة 200 متر من شمال هذه القرية الصغيرة، كشف المنقبون عن موقع أثري يحتل مسافة 25 هكتارا،
يعود بشكل أساسي إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويحوي مجموعة من الأبنية أهمها نصب تذكاري عُرف محلياً باسم “النصب الأبيض” بسبب توهج بياض سطحه تحت نور الشمس الساطعة.
وهو تل هرمي بني من الطين والجبس، قطره 100 متر وطوله 22 متراً، عُثر فيه على مجموعة من القبور تشير إلى وظيفة جنائزية.
أشهر هذه القبور ضريح يتألف من خمس قاعات خرجت منها مجموعة من اللقى الأثرية،
منها مجموعة من الحلل النفيسة المصنوعة من الذهب ومن الأحجار الكريمة، وأوانٍ من المرمر المزخرف.
بدأت أعمال التنقيب في هذا الموقع العام 1988، وتواصلت حتى 1999، قبل أن تغمر مياه الفرات الموقع عند إنشاء “سد تشرين”.
وقد قامت بهذه الأعمال بعثة من جامعة تورونتو الكندية، ترأسّها عالمان متخصصين في حضارات الشرق الأدنى والأوسط،
كما يعملان لحساب مؤسسة بإسم “انقاذ الفرات”، وهما توماس ماكلين وآن بورتر.
تبيّن أن بناء النصب الأبيض يعود إلى مرحلتين مختلفتين، فهو مؤلف من جزء يعود إلى بداية العصر البرونزي، وآخر يعود إلى نهاية العصر نفسه.
وهذا النصب فريد من نوعه، إذ أننا لا نجد ما يماثله في الفرات الأعلى أو في غرب سوريا،
كما انه يختلف بشكل كبير عن المعابد والزقورات التي تقع في جنوب بلاد ما بين النهرين، وتتبنّى بنية خارجية متشابهة بشكل ما.
أما النصب التذكاري الأقرب هندسياً إلى النصب الأبيض، فهو “هرم زوسر” الذي أُنشئ في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد لدفن الفرعون زوسر،
ويقع في مقبرة سقارة، شمال غرب مدينة ممفيس القديمة في مصر، ويتكون من ست مصاطب بُنيت بعضها فوق بعض،
وهو من الحجر، وكان في الأصل مغطى بالحجر الجيري الأبيض المصقول.
توقّفت أعمال التنقيب في الـ” مدينة سورية” في 1999 كما أشرنا، وحملت البعثة نتائج التقارير التي أعدّتها خلال سنوات التنقيب،
وشرعت في دراستها مع فريق عمل ضمّ طلابا من قسم الدراسات العليا، وأعلنت نتائج هذه الدراسة الطويلة اليوم.
تبيّن بشكل قاطع أن النصب الأبيض هو نصب جنائزي أقيم لإحياء تذكار نصر حربي.
وقالت الأستاذة آن بورتر في هذه المناسبة: “كرّم القدماء القتلى في المعركة تماماً كما نفعل نحن”،
وأضافت: “لا نعرف ما إذا كانوا المنتصرين أو المهزومين في هذه المعركة.
لكننا نعلم أنها جثث الموتى التي نُقلت من مكان آخر بعد فترة طويلة، وذلك لدفنها في تلة ضخمة كانت مرئية لأميال حولها”.
من جهة أخرى، أعلنت الباحثة أن هذا النصب قد يكون أقدم نصب تذكاري حربي معروف حتى يومنا في العالم،
واكتشافه يؤكد ما يظهر في نقوش فنية أثرية ترافقها كتابات تشهد لإقامة هذا النوع من الأنصاب في هذه البقعة من الشرق القديم.
تضمّ هذه المقبرة الحربية أكثر من ثلاثين جثة تمّ نقلها من مدفنها الأصلي إلى هذا الضريح الذي شيّد في أعالي تلة كبيرة،
بحيث تتسنّى رؤية الضريح من بعيد. في هذا المدفن الجماعي، جرى ترتيب الجثث بشكل منظم وممنهج، وذلك على دفعات.
كما دُفن الجثث إلى جانب دواب من نوع الأخدر، وهو الحمار البري الذي كان يجرّ العربات الحربية، وصورته معروفة في فنون بلاد ما بين النهرين،
مما يوحي بأن هذه الجثث تعود إلى قادة هذه العربات. ودفن البعض الآخر إلى جانب قطع معدنية تعود إلى أسلحة حربية،
كما يوحي بأن هذه الجثث تعود إلى المقاتلين الذين حملوا هذه الأسلحة.
في الخلاصة، يوحي هذا التوزيع بأن المقبرة تعود إلى جنود سقطوا في المعركة، ودُفنوا بحسب رتبهم العسكرية.
ونجد في الميراث الفني عدداً كبيراً من القطع التي تصّور هذه الطقوس الجنائزية الحربية،من أشهرها “مسلة النسور” التي تذكرها البروفسورة آن بورتر في مقدّمة الدراسة الخاصة بـ”النصب الأبيض”.
كما عثر عالم الآثار الفرنسي أرنست دو سارزك، على هذه المسلة، بشكل مجتزأ في جنوب العراق، العام 1880،وهي محفوظة في متحف اللوفر في باريس. يبلغ طولها نحو المترين، وعرضها نحو المتر ونصف المتر،
وقد ضاع الجزء الأكبر منها، ولم يبق منها سوى بضعة أجزاء تحوي نقوشاً تصويرية وكتابات باللغة المسمارية السومرية تسمح بتحديد مواضيع صورها بشكل جليّ.
كما تعود هذه المسلة إلى مدينة لجش السومرية التي تقع في محافظة ذي قار، وتبعد عن مدينة الدواية 16 كيلومتراً من جهة الجنوب،
بينما تحيط بها الأهوار من جهات ثلاث، وهي من أقدم المدن السومرية، وتعرف أيضاً باسم تل الهبا.
وقد حكمت هذه المدينة في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد “سلالة لجش الثالثة”،
وكان من ملوك هذه السلالة الملك أياناتوم الذي انتصر على مدينة أوما، عدوة لجش اللدودة، وهو الانتصار الذي تخلّده “مسلة النسور”.
يظهر الملك المنتصر وهو يتقدّم جنوده الذين يدوسون بأقدامهم أجساد أعدائهم العراة،ثم يظهر الملك مرة أخرى في مركبة تتقدّم جيشه في مسيرة النصر. بعدها،
تظهر جثث القتلى داخل كوّة تعلوها جثوة يقوم بإعدادها عدد من العمال بحضور كاهن يقوم بمراسم الدفن كما يبدو.
في المقابل، يأخذ هذا المشهد البانورامي بعداً دينياً صرفاً،مع ظهور الإله نينجيرسو الذي يحضر مرة مع نسوره ممسكاً بشبكة تحوي أسرى المعركة،
ومرة أخرى في مركبة إلهية تتقدم به في اتجاه والدته.على ظهر هذه المسلة، نقع على نص طويل بقيت منه أسطر،
منها قول الإله نينجيرسو للملك أياناتوم: “أجسادهم ستبلغ قاعدة السماء”.
ويبدو أن مدفن “النصب الأبيض” هو من المواقع التي أنشئت لتبلغ هذه القاعدة، وتربط الأرض بالسماء.
المصدر: تركيا رصد