التخمير الدقيق.. تقنية لتحويل الطاقة إلى غذاء قد تجعل الوطن العربي سلة غذاء العالم
تبدأ قصتنا من حقيقة أن مشتقات الحليب الطبيعية تحتوي على بروتين الكازين الذي يضمّ 80% من البروتين الموجود في حليب البقر، والذي يمنح الجبن قوامه المميز. وهذا البروتين لم تنجح غالبية البدائل النباتية في تعويضه بأي شكل، حتى أتت فكرت “التخمير الدقيق”.
تقنية “التخمير الدقيق” أو تحويل الطاقة إلى غذاء، هي عملية تحويل مزيج من الطاقة ومدخلات أخرى مثل النيتروجين والكربون إلى بروتينات.
تجمع هذه التقنية ما بين التخمير -وهي عملية أتقنتها البشر منذ آلاف السنين من أجل صنع منتجات متنوعة، والتضفير الجيني الذي تم تطويره في العقود الماضية. فيقوم التقنيون بتعديل الفطريات أو الخميرة من خلال إدخال نسخة رقمية من الحمض النووي للبقر، وتوضع هذه المادة في خزانات حديدية، حيث تتفاعل مع المواد العضوية بهدف إنتاج الكازين الذي يُمزج مع الدهون من أجل إنتاج سائل شبيه بالحليب يعتبر المادة الابتدائية المكونة للجبن.
يقول الخبراء في هذا الصدد: “البقرة هي العامل المعالج في عملية التحوّل من عشب إلى جبن”. وأضاف: “لذا، فإن الفطريات تحلّ مكان الأبقار في خطّ إنتاجنا”.
لكن الآمال من هذه التقنية تتجاوز المختبرات وتتجاوز مجرد استبدال بروتين الحليب، الأمر وصل إلى التفكير حرفيًا في إمكانية “تحويل الطاقة إلى غذاء”.
التخمير الدقيق… خيال علمي أم واقع سنراه قريبًا؟
يبدو الحديث عن تقنية فريدة مثل “التخمير الدقيق” وتحويل الطاقة إلى غذاء شبيهاً بالخيال العلمي، لكن الأرقام والواقع الحالي قد يغيّران نظرتنا إلى الموضوع، بل قد يغيّران وجه الشرق الأوسط كله.
تخبرنا الأرقام المتعلقة بهذه الصناعة (إنتاج الغذاء عبر تقنية التخمير الدقيق)، أن العالم بدأ بالفعل في الاستثمار بمجال البروتينات البديلة، مع توقعات بوصول حجم الاستثمارات إلى 1.4 تريليون دولار أميركي بحلول 2050.
يتمثل أوضح الأدلة على تصاعد الاهتمام بتنقية التخمير الدقيق في القفزة في رأس المال المُستثمَر بالقطاع بمعدل سنوي قدره 250% منذ 2018.
لماذا نحتاج إلى التخمير الدقيق؟
يستخدم البشر بالفعل 50% من الأراضي الصالحة للسكن على الكوكب في الزراعة. وحسب الدراسات فإنّ الإنتاج الزراعي في العالم يحتاج إلى زيادة تتجاوز 60% من الإنتاج الحالي بحلول 2050، كي يتمكن قطاع الزراعة من إطعام قرابة 10 مليارات نسمة.
حتى مع افتراض استمرار نمو المحاصيل والمراعي بالمعدلات الحالية، فإننا سنكون بحاجة إلى إضافة 6 ملايين كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية لتلبية الطلب المتوقع على الغذاء، وهو ما يعني خسارة واسعة في أراضي الغابات التي تمثل “رئة الأرض”.
أما على مستوى المياه، فإن الزراعة تستهلك 70% من المياه العذبة المسحوبة، فيما يعاني ثلثا سكان العالم من نقص المياه.
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، فإن كل ما يمكن للموارد المائية أن تضيفه إلى قطاع الزراعة بحلول 2050 هو زيادة بنسبة 10% فقط.
تقنية صديقة للبيئة:
على مستوى البيئة فتسهم الزراعة فيما بين ربع إلى ثلث انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً. وتوفّر تقنية التخمير الدقيق حلّاً لإنتاج البروتينات بطريقة مستدامة وبأثر بيئي منخفض جداً مقارنة بالطرق التقليدية.
يحتاج إنتاج كيلوغرام بروتين من مصدر حيواني إلى 12 ألف لتر مياه، و200 متر مربع من الأراضي، وينجم عن ذلك انبعاثات تقدر بـ 100 كيلوغرام “مكافئ” من ثاني أكسيد الكربون. بالمقابل يحتاج إنتاج كيلوغرام بروتين عبر التخمير الدقيق إلى لتر واحد من المياه، ومتر مربع واحد من الأراضي، وينتج عنها 3 كيلوغرامات مكافئة من ثاني أكسيد الكربون.
ما الرابط بين هذه التقنية والدول العربية أو دول الشرق الأوسط؟
رغم الاستثمارات الدولية المتنامية في القطاع، فإنّ لدى منطقة الشرق الأوسط ميزة حاسمة هي الطاقة المنخفضة التكلفة، وهي الميزة التي قد تجعلها قادرة على قيادة نقلة التحوّل المرتقب في قطاع الغذاء العالمي.
ويمكن لدول الخليج أن تحتلّ مكانة فريدة في مجال تحويل الطاقة إلى غذاء لأنها تمتلك أدنى تكلفة على مستوى العالم لمصادر الطاقة المتجددة، إذ تشكل الطاقة نحو 40% إلى 60% من تكلفة إنتاج البروتينات الجديدة.
وبافتراض أن المنتجين في دول الخليج يتكبدون تكاليف غير متعلقة بالطاقة تماثل المتوسط العالمي، فإن إنتاج الغذاء الجديد سيكون أقل تكلفة بكثير من أي مكان في العالم.
لدى دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً أسباب وجيهة لاقتحام لريادة هذا المجال؛ وأول هذه الأسباب هو تعزيز الأمن الغذائي، فنحو 85% من الاحتياجات الغذائية في دول الخليج تأتي من الخارج في الوقت الحالي.
أمّا على مستوى السوق فإنّ الفرصة سانحة أمام دول الخليج، إذ يُتوقع أن تصل السوق العالمية للبروتينات البديلة إلى 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2050. وبافتراض تشكيل منتجات التخمير الدقيق ما بين 20% إلى 25% من هذه السوق، وبافتراض تمكّن دول الخليج من الاستحواذ على 20% فقط من سوق البروتينات البديلة، فستحصل على مبيعات تتراوح ما بين 56 و70 مليار دولار في السنة بحلول 2050.
الدافع الآخَر لدول الخليج هو الفائدة البيئية والمساهمة بتحقيق مستهدفات الحياد الكربوني، إذ ينتج عن تحوّل 25% من المستهلكين في الخليج إلى البروتين الناتج عن عملية تحويل الطاقة إلى الغذاء خفض الانبعاثات بالمنطقة بنسبة 3% إلى 5%.
تحدّيات رئيسية أمام تقنية التخمير الدقيق:
للانتقال بعمليات التخمير الدقيق ومنتجاتها الغذائية من الإطار التجريبي إلى الاستهلاك الفعلي، نحتاج إلى التغلب على 3 تحديات أساسية، هي: التكلفة، وقبول المستهلك، ونطاق الإنتاج.
أولاً: يجب أن تصبح عملية تحويل الطاقة إلى طعام فعالة من حيث التكلفة. واليوم يُعَدّ إنتاج البروتين من أي شكل من أشكال التخمير الدقيق أكثر تكلفة بنحو 10 مرات من إنتاج البروتين من مصادر حيوانية.
ثاني التحديات هو ضمان قبول المستهلك لهذا النوع الجديد من البروتينات، إذ إنّ الطعام بالأساس قضية تفضيل شخصي بامتياز.
أما ثالث التحديات فهول بناء حجم مناسب من الإنتاج.