الأرض والمناخ والمياه، العوامل الثلاثة الرئيسية لجذب السكان، التي يستحيل العيش في غياب واحدة منها.
وبالنظر إلى العامل الثاني، فقد تمكن الإنسان من تغييره والتلاعب فيه إلى حد ما، مع تطور العلم.
في مركز إيران، توجد مدينة (يزد)، المشهورة بقسوة مناخها عبر التاريخ، لكن ما يدعو للغرابة حقاً هو أنها مأهولة بالسكان منذ زمن بعيد.
فبتمركزها في وسط الصحراء مع قدر شحيح جداً من الأمطار، ترتفع درجات الحرارة فيها خلال فصل الصيف لتصل إلى مستويات لا تطاق، مع أكبر قدر من سطوع أشعة الشمس نهاراً، ثم تنخفض درجات الحرارة ليلاً لتصل كذلك إلى حد لا يطاق.
ومع ذلك فقد كانت هذه المنطقة مأهولة بالسكان على مدى ثلاثة آلاف سنة كاملة، وخلال هذه المدة، يبدو أن كلا من المدينة وسكانها قد تكيفوا مع مناخها القاسي من خلال إنشاء محيط يستغل تقنيات بسيطة لتطويع المناخ، أو لخلق مناخات بديلة ألطف وأكثر قابلية للعيش والتحمل.
منها نذكر الشوارع المغطاة، والأسطح المزودة بالقباب، والجدران الغليظة، وكذا استعمال المياه في كل مكان تكون فيه متاحة، سواء في داخل أو خارج الأبنية.
تختص وتمتاز البلدان في الشرق الأوسط كذلك بصفة عامة بمناخها الحار والجاف، لذا يتم في العادة بناء المنازل والبنايات باستعمال السيراميك الغليظ، مع أنظمة عزل عالية من أجل ردع الحرارة الشديدة.
يتم بناء المنازل ملتصقة ببعضها البعض مع جدران مرتفعة نسبياً وأسقف بعيدة عن السطح، مما يرفع من نسبة الظلال على الأرضية إلى أقصاها، ويتم خفض الحرارة الصادرة عن أشعة الشمس كذلك قدر الإمكان من خلال اعتماد نوافذ صغيرة نسبياً، التي تكون موجهة في عكس إشراق الشمس.
عنصر آخر أنشأه المهندسون المعماريون الفارسيون من أجل قهر حرارة الشمس القوية، والذي أدخلوه إلى هندستهم المعمارية هو ما يعرف بـ(الملاقف).
يعتبر الملقف برجاً مرتفعاً يبنى فوق سطح المنزل أو البناء، والغاية منه هي تبريد المنزل من خلال تحسين جودة التهوية وسيرورة الهواء فيه.
يعتقد أن أصل الملاقف كان في بلاد فارس القديمة، ومن هناك انتشر هذا التصميم العبقري وشاع وذاع صيته في مختلف بقاع الشرق الأوسط، وباكستان، وأفغانستان.
(ملقف) في مدينة الجميرة في إيران – صورة: FroyoNation/Flickr
تحاكي الملاقف في مبدأ عملها كثيراً أنظمة التبريد الحديثة، حيث توجد على قمة برج الملقف العديد من القنوات والمنافذ الموجهة في اتجاهات مختلفة، والتي يكون في العادة أربعة منها مفتوحاً على أربعة اتجاهات مختلفة.
عندما يفتح المنفذ المواجه لمصدر الرياح، يتم دفع الهواء داخل قناة أسطوانية ومباشرة باتجاه داخل المبنى، وفي قاعدة البرج توجد بركة مياه التي لها عدة قنوات، ينزلق الهواء فوق هذه المياه والقنوات ويمر، وبمرور الهواء الساخن فوق مياه القناة الباردة يتم تبريده بشكل طبيعي من خلال عملية التبريد بالتبخر.
رسم توضيحي يصور مبنى يتم تبريده من طرف قناة مائية وبرج رياح يعمل بنظام تهوية مراوح طبيعي – رسم توضيحي: Samuel Bailey/Wikimedia
ليلًا، يتم امتصاص الهواء البارد داخل المنزل، ومنه تبريده طبيعياً كذلك.
بإمكان الملاقف أن تعمل بشكل عكسي كذلك، فمن خلال غلق جميع المنافذ ما عدا ذلك المعاكس لمصدر الرياح، يتم امتصاص الهواء من المنزل إلى الخارج صعوداً باعتماد مزيج من مبدأ (بيرنولي) وتأثير (كواندا).
يعمل الضغط السلبي على سحب الهواء الساخن نحو الأسفل داخل القنوات المائية، ويتم تبريده من خلال اتصاله بالأرضية الباردة والمياه الباردة التي تسري في القناة، وفي هذه النقطة يتم إدخال الهواء البارد إلى داخل المبنى، ومن خلال توجيه الملاقف بعيداً عن مصدر الرياح، بالإمكان كذلك منع تسرب ودخول الرمال والغبار الصادرين عن العواصف الرملية في الصحراء من الدخول إلى هذه المباني.
احد الملاقف من الداخل
خزان مياه مجهز بملقف في مدينة (يزد) بإيران – صورة: golisnow/Flickr
تعتبر الملاقف فعالة لدرجة يتم استعمالها بشكل روتيني على شكل أجهزة تبريد، وعلى شكل غرف تبريد كذلك في مختلف المناطق في إيران، كما أن العديد من خزانات المياه التقليدية تبنى مع تصميم ملاقف معتمد فيها، مما يجعلها قادرة على تخزين المياه على درجة حرارة قريبة جداً من درجة التجمد، وذلك خلال أشهر الصيف الطويلة.
يكون تأثير نظام التبريد بالتبخر أقوى في المناخات الجافة، على غرار منطقة إيران ومحيطها، مما يقود إلى استعمال واسع للملاقف في المناطق الأكثر جفافاً فيها على غرار مدينة (يزد)، و(كرمان)، و(كاشان)، و(سيرجان).
يسمى الملقف الصغير بـ(شيش خان) في الهندسة المعمارية التقليدية الفارسية، وبالإمكان رؤية (شيش خان) حتى في يومنا هذا فوق الأبنية في (قزفين) وبعض المدن الشمالية في إيران.
توجد معظم الملاقف في المباني والإقامات والمنازل القديمة والأثرية، وفي معظم الخزانات المائية الحضرية والمساجد، بكلمات أخرى بالإمكان تسميتها على أنها منافذ تهوية المدينة بأسرها، فهي أبراج التي، بغض النظر عن الشكل المميز للمبنى، تقوم بتوجيه تيار الهواء الطبيعي إلى أقسام مختلفة من المبنى.
بغض النظر كذلك عن المغزى منها، فإن ارتفاع وزخرفة هذه الملاقف بإمكانه أن يدل على مكانة مالك المبنى ومركزه الاجتماعي.
واحد من أكثر الملاقف المميزة والمثيرة للاهتمام يقع في مدينة (يزد) يوجد في حدائق (دولة آباد)؛ توجد في هذه الحدائق العديد من المباني المختلفة المجتمعة مع بعض، والتي صممت وبنيت خلال زمن (محمد تقي خان) في حقبة الدولة الزندية، لقد كانت تحتوي كذلك على الإقامة الخاصة بالخان وحكومته وموظفيه السامين.
يبلغ ارتفاع ملقف هذه الحديقة 33 متراً، وهو يعتبر تحفة فنية في فن العمارة والهندسة، ورمزا لعبقرية المهندسين المعماريين اليزيديين، وكذا قدراتهم وتفوقهم العقلي، وموهبتهم وفنونهم.
يعتبر أكثر الخصائص بروزاً لتصميم هذا البناء هو محاولة المهندس اختيار زوايا دقيقة من أجل منح أفضل المناظر والإطلالات من الداخل.
يعمل الملقف الإيراني حتى في وسط تنعدم فيه الرياح، حيث يعمل باستعمال حرارة الشمس من أجل خلق فرق في درجة الحرارة، واستغلال ظاهرة تعرف بتأثير (كواندا).
إن الهواء الساخن أخف من الهواء البارد، وبسبب هذا يرتفع الهواء الساخن دائما نحو الأعلى، وباعتبار أن هيكل الملاقف يجعلها دائما معرضة في معظمها لأشعة الشمس، مما يعني أن كلا من البرج والهواء داخله ترتفع حرارته خلال اليوم، يخلق هذا الأمر ضغطاً وفرقًا كبيراً في درجة الحرارة بين قمة وقاعدة البرج، وبما أن الهواء الساخن يرتفع مثلما سبق ذكره، يتدفق الهواء الساخن ارتفاعاً خلال البرج.
في هذه الحالة يعمل الملقف على شكل مدخنة، حيث يقوم بدفع الهواء الحار خارج المبنى بينما يدخل الهواء البارد ويتم امتصاصه من منافذ تحتية في قاعدة البرج، وكلما كان البرج أطول ارتفاعاً كلما كان فرق الضغط بين القمة والقاعدة كبيرًا، وكلما كان دفق الهواء أكبر.
يتم استعمال نفس المبدأ اليوم في (المداخن الشمسية) حيث يتم تحسين ذلك التأثير من خلال استعمال بعض المواد التي تقوم بامتصاص حرارة الشمس.
توجد الكثير من الطرق التي يمكن من خلالها تحسين وتطوير استعمال الملاقف في أيامنا هذه، حيث لا تعتبر الملاقف التقليدية مثالية أو كاملة لكن من خلال فهمنا لمبدأ عملها، بإمكاننا استعمال نفس المبدأ في سبيل تهوية وتبريد المنازل بطرق بسيطة حتى في أيامنا وعصرنا هذا، دون الحاجة إلى اللجوء إلى التكييف العصري للهواء.
الملاقف في مصر:
كانت الملاقف تستعمل في الهندسة المعمارية المصرية التقليدية القديمة، حيث وجدت لوحة فنية تبرز استخدام هذا النوع من التصاميم الهندسية في منزل الفرعون (نيب أمون)، في مصر التي يعود تاريخها إلى السلالة المالكة التاسعة عشر، وذلك حوالي 1300 قبل ميلاد المسيح.
اعتمدت مؤخرا العديد من الهندسات المعمارية الغربية وتبنت نظام ومقاربة الملاقف، ذلك على غرار (مركز الزوار) في (المتنزه الوطني الأمريكي زيون)، و(يوتاه)، وأرضية لعبة ”الكريكيت“ البيضاوية الشكل في (كينغستون) في (بربادوس)، كما أن استعمال معدن الألومنيوم في بناء الملاقف الحديثة يجعل النظام أكثر فعالية.
ملقف أخر في (يزد) في إيران – صورة: juliamaudlin/Flickr
أبراج الرياح فوق مبنى في الجزء القديم من الجزيرة الحمراء، في شمال الإمارات العربية المتحدة – صورة: gordontour/Flickr
ملقف في إيران قرب ميدان أمير جقماق – صورة: reibai/Flickr
قد تكون هذه التقنية قديمة، لكن أثرها كبير، ولو لم تكن بدرجة عالية من المنفعة. لما تم اعتمادها لدى أكثر من دولة.