طالما أن مطابع النقود ملك للحكومات ..لماذا لا تطبـ.ـع الدول أموالاً كثيرة وتوزعها على الشعب الفقير وتفي ديونها؟
لا يمكن أن نغض أبصارنا عن الأزمة العالمية التي تعانى منها كل الاقتصاديات الآن، والتي تسببت في ارتفاعات كبيرة لأسعار السلع سواء الغذائية منها أو السلع الأخرى.
فالفقر والديون وضعف مستوى الدخل وتردي المعيشة، أسقام لا يكاد يخلو منها أي اقتصاد حول العالم، حتى البلدان المتقدمة، ومعالجة هذه الأمر.اض يكمن في ترياق واحد وهو “المال”.
وإذا كانت الحكومات تملك ماكينات طباعة فلماذا لا تطبع الدولة الأموال بكثرة ويُصبح الشعب غني؟
هذا السؤال يبدو منطقيًا للغاية، وبالمناسبة هو شائع جدًا، لكن إجابته شائعة أيضًا سنتعرف عليها في المقال التالي:
على الرغم من أن هذا السؤال قد يبدو غبيا بعض الشيء، غير أنه بدون شك واحد من تلك الأسئلة التي يشعر الناس بالإحراج ويترددون لطرحها.
أولا علينا فهم ماهية المال:
المال. صورة: pixabay
قد يبدو هذا الأمر بديهيا، لكن من الجدير التنويه إلى أن المال لا يملك في الواقع قيمة ذاتية، وهو ما يعني أن المال في حد ذاته لا قيمة له، وهو يعتبر ذا قيمة فقط لأنه يخولنا من اقتناء الأشياء والخدمات.
أي أنك إذا وجدت نفسك عالقا على جزيرة معزولة وكان بحوزتك بعض المال، فهذا المال لا قيمة له بالنسبة لك لأنه لن ينفعك بشيء.
كما أن قيمة المال مصدرها نحن البشر الذين نتعامل به، لأننا نمنحه إياها لإيماننا بأنه ذو قيمة، وهو ما يعرف علميا باسم ”تأثير تينكربيل“، الذي يستخدم لوصف كل شيء موجود فقط لأننا نؤمن بوجوده، وهو ما يمكن إسقاطه على حال المال نظريًا.
على سبيل المثال، لو يبدأ الناس بالإيمان بأن المال لا يملك أية قيمة فهو سيصبح آليا بدون قيمة.
بالطبع لم يكن الأمر دائما على هذه الحال، حيث ظل مفهوم المال متواجدا منذ ألف سنة تقريبًا، وقد بدأ استخدامه في المرة الأولى على شكل سلعة.
حيث كان يتم الاتجار بالأشياء والأغراض بالمقايضة، وهي أشياء وأغراض كانت لها قيمة ذاتية وقيمة فعلية، على شاكلة الملح والسكر، والتوابل، والخيول، والأسلحة، إلى جانب بعض المعادن القيّمة مثل الذهب والفضة، التي لا تملك هي الأخرى تقنيا أية قيمة فعلية لكننا نحن البشر جعلناها ذات قيمة عالية بسبب ندرتها.
أن تحمل معك كل شيء تملكه من أجل مقايضته أو احتمال مقايضته بشيء آخر أنت في حاجة إليه لهو أمر صعب للغاية، وهو ما مهد لظهور ما يعرف ”بالمال التمثيلي“.
التجارة بالمقايضة قبل اختراع المال.
المال التمثيلي هو أن تمنح الذهب الذي تملكه للبنك الذي يقوم بحمايته لك ويعطيك بدلا عنه وثيقة تعترف لك بأنك تملك ذلك الذهب وتصرح بقيمته.
ومن هنا أصبحت هذه الوثائق تستخدم كأموال ذلك أنه كان لحاملها القدرة على الذهاب إلى البنك واستخراج قيمتها ذهبًا.
غير أن الأمور تغيرت كثيرا اليوم، حيث صارت تقريبا كل دولة في العالم تستخدم ما يعرف ”النقود الائتمانية“، التي تتطلب الثقة والإيمان حتى تكون لها قيمة، أي أن المواطن يثق ويؤمن بأن ما تمنحه حكومته إياه على أنه مال هو مال حقيقي وذو قيمة.
لنأخذ على سبيل المثال دولة فتية على شاكلة الولايات المتحدة الأمريكية التي مرت عبر جميع الأنظمة المالية الثلاثة السابق ذكرها خلال تاريخها الوجيز الذي لا يتعدى 200 سنة.
ففي سنة 1792 عندما توقفت عن استخدام العملة الأوروبية، جلب ”قانون سك العملة لسنة 1792“ مفهوم الدولار الأمريكي، الذي كان في الأصل عبارة عن ”مال بضاعة“ على شكل عملات معدنية مصنوعة من الذهب والفضة والنحاس.
لقد كانت تلك العملات المعدنية مصنوعة في الواقع من الذهب الحقيقي والفضة والنحاس أيضًا، وقد كانت قيمة المعادن التي صنعت منها العملات المعدنية تساوي قيمة العملات نفسها.
ثم انتقلت الدولة إلى نظام هجين بين مال البضاعة والمال التمثيلي مع قانون ”المعيار الذهبي لسنة 1900“. بموجب هذا القانون، قامت الحكومة الأمريكية بإصدار الدولار في عملات ورقية كان بالإمكان مقايضتها بالذهب في البنوك في أي وقت.
وقد كان ”المعيار الذهبي“ نوعا من المال التمثيلي الذي كانت تستخدمه الدول آنذاك.
كانت تلك طريقة فعالة من أجل حساب وتيرة المبادلات بين الدول. على سبيل المثال، إذا كان غرام واحد من الذهب يساوي 1 جنيه استرليني في بريطانيا و1.50 دولارًا في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكنك بسهولة استنتاج أن 1 جنيه استرليني يساوي 1.5 دولار أمريكي.
تم وقف سك العملات الذهبية وأسقطت العملات الفضية من الاستخدام، مما مثل نهاية المال البضاعة.
في سنة 1971، قام الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) بصفة رسمية بإعلان تخلي الولايات المتحدة عن المعيار الذهبي في النظام المالي، وانتقلت على إثر ذلك الولايات المتحدة الأمريكية إلى العملة الائتمانية Fiat Money.
لذا يمكننا اعتبار أن المال اليوم لا يدعمه الذهب أو أي بضاعة ذات قيمة فعلية.
إذن.. لماذا لا تقوم الدول بطباعة المال كل ما اقتضت الحاجة ذلك؟
بالعودة إلى سؤالنا الأول: تخبرنا أساسيات الاقتصاد بأن زيادة العرض تؤدي إلى نقص الطلب ومنه انخفاض الأسعار، لذا كل ما زاد حجم المال في الاقتصاد انخفضت قيمة العملة.
مما يعني أن الدول الأخرى تصبح قادرة على شراء الكثير من عملتك مقابل القليل من عملتها.
أقصر جواب ممكن لهذا التساؤل يمكن اختزاله في كلمة واحدة: ”التضخم“.
يتحدد مفهوم التضخم على أنه: ”ارتفاع مستمر ومعتبر في المستوى العام للأسعار بسبب ارتفاع حجم الأموال المطبوعة وهو ما ينجم عنه فقدان العملة لقيمتها“
كما أن زيادة حجم المال المتوفر داخل اقتصاد ما يؤدي إلى تحول في منحنى السلع والخدمات، على سبيل المثال، إذا ما قامت الحكومة بطباعة مليون دولار وأرسلت بها إلى جميع المواطنين في البلد عبر البريد وكان الجميع يرغب في شراء سيارة رياضية.
وعلى الرغم من أن عدد السيارات الرياضية محدود وعدد ملايين الدولارات كبير جدا، سيجعل هذا سعر السيارة الرياضية يرتفع كثيراً لأن الطلب عليها عظيم وهي نادرة نسبيا.
مثال آخر أن نتخيل وجود 4 أشخاص على جزيرة مهجورة، ويملك كل واحد منهم عشرة حبات فاكهة مختلفة، يمكن اعتبار جميع أنواع الفاكهة متساوية من حيث القيمة.
الآن تخيل عزيزي القارئ أن يكتشف هؤلاء الأربعة وجود غابة كاملة من أشجار التفاح، على إثر ذلك تنخفض القيمة الفعلية للتفاح بسبب ارتفاع العرض، وعلى إثر ذلك يصبح سعر موزة واحدة مثلا 10 تفاحات، بما أن الطلب على التفاح قليل وعلى الموز كبير.
وفي هذا المثال السابق، يمثل الأشخاص الأربعة مختلف الدول، بينما تمثل الفواكه عملة كل دولة على حدى، وتمثل غابة التفاح الدولة التي قامت بطباعة الكثير من المال.
واجدير بالذكر أن السبب الذي جعلنا ندرك أن طباعة المال هو مؤشر سيئ لا ينحصر على النظريات الاقتصادية فقط، لأن التاريخ يزخر بالأمثلة الواقعية التي تدل على هذا الأمر وتؤكده.
ومن أكثر الأمثلة حداثة عن فداحة طباعة المال بشكل مسرف هو دولة زيمبابوي، التي في سنة 2008 عانت من تضخم حاد بسبب طباعة المال. كان ذلك نتيجة حتمية لبعض القرارات الخاطئة التي اتخذها الرئيس (روبيرت موغابي).
عندما تحولت الأمور من سيئة إلى أسوأ بالنسبة للاقتصاد، قام الرئيس (موغابي) بطباعة المزيد من المال من أجل تغطية تكاليف الحكومة. أدى هذا إلى ارتفاع مستوى التضخم بشكل خيالي، وفي منتصف شهر نوفمبر من سنة 2008 وصل التضخم في زيمبابوي إلى أوجّه.
لنفهم قليلا التضخم وما هي المستويات الطبيعية منه:
من دون شك يعتبر اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية من أقوى الاقتصادات في العالم، وهو اقتصاد تبلغ نسبة التضخم فيه 2 في المائة، يتفق الخبراء الاقتصاديون عادة على أن مستوى التضخم عندما يكون بين 1 إلى 3 في المائة هو مثالي.
تتراوح مستويات التضخم في دول العالم الأول أو العالم المتقدم اليوم بين 0 إلى 5 في المائة، ويتفق الخبراء الاقتصاديون كذلك على أن دولة ما قد دخلت مرحلة التضخم الزائد إذا ما وصلت مستويات التضخم لديها حدود 50 في المائة أو تجاوزتها.
بأخذ هذه المعلومات بعين الاعتبار، فقد وصلت مستويات التضخم في دولة زيمبابوي عند ذروتها إلى 6.5 سيكستليون في المائة، وهو رقم يحمل خلفه 22 صفرًا حتى نستوعبه بشكل أفضل.
أصبحت الأمور سيئة للغاية لدرجة أن الأسعار صارت تتضاعف كل 24 ساعة، وقد حاولت الحكومة حل هذه المشكلة من خلال طباعة المزيد والمزيد من المال مع قيم إسمية أعلى أكثر فأكثر.
كما استمرت الحكومة في حذف الأصفار من النهايات لكثرتها من خلال إعادة تقييم الدولار الزيمبابوي 3 مرات، ومن خلال استخدام 4 أنواع مختلفة من العملة.
قبل آخر عملية سك لعملات جديدة ذات قيمة إسمية كبيرة (مثل فئة المليون دولار زيمبابوي مثلا)، كانت الحكومة الزيمبابوية تطبع عملات ورقية من فئة 100 تريليون دولار!
ورقة نقدية من فئة المليون دولار زيمبابوي. صورة: voazimbabwe
كان الناس حرفيا يستخدمون عربات اليد المملوءة بالمال من أجل اقتناء رغيف خبز. حتى أن الحكومة وليأسها جعلت من التضخم عملية مخالفة للقانون وراحت تعتقل الناس لرفع أسعار بضاعتهم.
في سنة 2009، تم هجر الدولار الزيمبابوي وإلى يومنا هذا لا تملك دولة زيمبابوي عملة وطنية، وبدل ذلك يستخدم شعبها عملات أخرى على شاكلة الدولار والجنيه الإسترليني واليورو.
قبل هذا التضخم الهائل في اقتصاد دولة زيمبابوي، كان الدولار الزيمبابوي يساوي 1.25 دولارا أمريكيًا، وإذا كانت قيمة ورقة المائة تريليون دولار زيمبابوي التي تحدثنا عنها سابقا تساوي قيمتها الإسمية لكانت تساوي جميع الأموال الموجودة في العالم كله مرتين!
وعلى قدر فداحة التضخم الذي حصل في زيمبابوي، فإنه يعتبر ثاني أسوأ تضخم حدث في التاريخ، لأن المرتبة الأولى من هذه الناحية من نصيب المجر سنة 1946.
على الرغم من أن التضخم في زيمبابوي بلغ أوجه في منتصف شهر نوفمبر سنة 2008، فإن نسبة التضخم العامة التي عانت منها البلاد قدرت بـ79.6 مليار في المائة، بينما وصلت نسبة التضخم في المجر عند أوجها في شهر يوليو من سنة 1946 إلى 41.9 كوادريليون في المائة، حيث كانت الأسعار تتضاعف كل 15 ساعة.
من أجل توضيح الأمور قليلاً، إذا كانت لدينا دولة مستوى التضخم لديها مثالي عند حدود 3 في المائة، فإن الأسعار فيها تتضاعف كل 23 سنة.
كانت عملة دولة المجر آنذاك تدعى (بينغو) Pengo، وبارتفاع مستويات التضخم، طبعت الحكومة عملة ورقية من فئة بيل-بينغو، كاختصار لبيليون بينغو (مليار بينغو) والتي هي في الواقع تساوي تريليون بينغو.
إلى جانب كونها تملك الرقم القياسي في مستوى التضخم الشهري الأكبر على الإطلاق، تحمل دولة المجر كذلك الرقم القياسي بالنسبة لأعلى ورقة نقدية تطبع على الإطلاق، وهي ورقة المائة مليون بيل-بينغو (مائة مليون تريليون بينغو).
تمت كذلك طباعة عملة ورقية من فئة 1 مليار بيل-بينغو لكنها لم تصدر أبدًا.
في سنة 1941، كان 1 دولار أمريكي يساوي 5 بينغو مجري، وفي سنة 1946 عندما تم وقف استعمال العملة المجرية الوطنية، بلغت الأمور منحى سيئا للغاية لدرجة أنك إذا جمعت كل الأموال الموجودة في المجر فلن تساوي عُشُر بنس أمريكي.
اعتمدت بعد ذلك دولة المجر عملة جديدة وهي الـ(فورينت)، حيث يساوي 1 فورينت 400 أوكتيليون بينغو، وهو رقم يحمل خلفه 29 صفرًا!
وفي النهاية هذه هي الأسباب التي تمنع الحكومة أن تقوم ببساطة بطباعة المال من أجل سداد ديونها، ذلك أن الأمور لا تنتهي على نحو جيد بالنسبة لها على الإطلاق.
المصدر: دخلك بتعرف