“ذهب طروادة” ..تنقيب بين سطور الإلياذة يخرج الكنز إلى المتاحف
في قلب موسكو، العاصمة الروسية، يقع متحف “بوشكين” للفنون الجميلة، ويضم أكبر وأندر المجموعات الفنية في أوروبا والعالم، أكثر من 6 آلاف قطعة فنية يزهو بها أكبر متاحف روسيا، إلى جانب متحف “الآرميتاج”.
في 1993 عقد المتحف مؤتمرا صحفيا ليعلن عن أهم أسرار القرن العشرين الأثرية، إنه “ذهب طروادة”، تلك الأسطورة التي تغنّى بها هوميروس قبل 3 آلاف عام، تبدو اليوم حقيقة تبهر أعين الناظرين. وقد عرضت الجزيرة الوثائقية هذا الحدث المتميز في فيلم حمل عنوان “ذهب طروادة”.
“هاينرش شليمان”.. مغامرة التاجر الذي أثبت وجود الأسطورة
حلية الرأس الذهبية هذه ربما تزينت بها “هيلين”، أو لبسها “برايام” ملك طروادة. هكذا تقول قصيدة الإلياذة للشاعر اليوناني “هوميروس”، فهذا التاج أو كنز “برايام” الذي اكتشفه الألماني “هاينريش شليمان” يعد جزءا من الإرث البشري، وهذه القطع التي ليس لها مثيل ولا تقدر بثمن، تعتبر كنزا ثقافيا استثنائيا يخص العالم أجمع.
وبعد نصف قرن من اختفائه في عهد الرايخ الألماني، ظهر كنز “برايام” مجددا في روسيا، وأحدث الكشف عنه ضجة في عالم الآثار، فقد كشفت عنه “إيرينا أنتونوفا” مديرة متحف “بوشكين” في ذلك الوقت، ومعها “فلاديمير تولستيكوف” أمين المجموعة الرئيسي.
اكتشف الكنز لأول مرة في القرن التاسع عشر في أراضي السلطنة العثمانية، وكان التاجر الألماني الكبير “هاينرش شليمان”هو من نفض الغبار عن الذهب في 1873، ويحمل الكنز قيمة تاريخية ومعنى رمزيا بوصفه دليلا على طروادة، مدينة هوميروس الأسطورية.
ولكن كيف اكتشفت المدينة؟ ومن يملك ذهب برايام؟ وأين غاب مدة نصف قرن؟ السطور القادمة تحمل بعض الإجابات.
بدأت رحلة البحث عن الكنز شرق البحر المتوسط بين اليونان وآسيا الصغرى، هناك وقبل آلاف السنين ظهرت الإمبراطورية الحيثية التي حكمت أكثر من نصف تركيا اليوم، أي هضبة الأناضول، وكانت بها عدة ممالك إقليمية، كانت إحداها “إيليوس”، وهي التي ذكرتها الإلياذة، ولم تذكر “طروادة” إلا مرتين، فهي إذن مدينة باسمين.
هاينريش شليمان الذي استطاع مسترشدا بالإلياذة اكتشاف مدينة طروادة
طروادة المعتدية.. حلف ضد أغنى ممالك الإمبراطورية
كانت إليوس أو طروادة مدينة مستقلة قوية ضمن إمبراطورية الحيثيين، وإلى الغرب كانت مملكة ميسينيا التي حكمت اليونان القارية، كانت هذه الممالك في بداية العصر البرونزي، تحاول باستمرار غزو الأراضي المجاورة، فملوك ميسينيا الذين حكموا جزيرة كريت يحاولون التمدد إلى الأناضول. وهناك يواجههم الحيثيون، وكانت طروادة بين هاتين الإمبراطوريتين.
في عهد الملك “برايام” أصبحت طروادة أغنى مملكة في الإمبراطورية، وبها موارد كثيرة لأنها تقع على مفترق طرق تجارية مهمة، وكانت تتحكم بالوصول إلى بحر إيجة والبحر الأسود عبر الدردنيل، مما جعلها مركزا للصراع بين الشرق والغرب.
كانت حرب طروادة وميسينيا الموضوع الرئيسي في الإلياذة، هذه الملحمة الأسطورية التي كتبها هوميروس شعرا في القرن الثامن قبل الميلاد، وتذكر الصراع بين طروادة واليونان، الذي أنهى شعب ميسينيا.
كان “باريس” ابن الملك “برايام” قد خطف “هيلين” زوجةَ “مينيلاوس” ملك إسبرطة، وقد عبر “مينيلاوس” بحر إيجة مع “أغاممنون” ملك ميسينيا لاستعادة زوجته الموجودة في طروادة. في هذه المعركة الأسطورية التي اشترك فيها البشر مع الآلهة، حوّل اليونان فيها المدينة إلى رماد.
“شليمان”.. هوس البحث عن أسطورة المدينة المفقودة
ظل الناس يتناقلون القصيدة مشافهةً لقرون، الأمر الذي جعلها أشهر قصة في التاريخ، تسلط الضوء على طروادة، لكن المدينة نسيت بعد الألفية الأولى، وحكايات ما قبل التاريخ في أوروبا لا تُعرَف إلا من خلال أدب اليونان والرومان. ولسدّ هذه الفجوة التاريخية شرع العلماء وخبراء الآثار في البحث عن المدينة المفقودة، ومنهم “هاينرش شليمان”.
ولد “شليمان” عام 1822 في بلدة مكلينبرغ، وكان أبوه قسا لوثريا، وقد عاش في عائلة بسيطة، ولم يتلق تعليما جيدا، وعمل منذ صغره مساعدا لصاحب دكّان، لكن سرعان ما أصبح صاحب أعمال، وكان يتقن 4 لغات، بدأ في أمستردام، ثم أُرسِل إلى سان بطرسبرغ ليؤسس شركة لتجارة الذهب، وتزوج هناك من ابنة محام ثري، فدخل عالم الأرستقراطيين.
عاش “شليمان” حياة باذخة وطمع بالمزيد، كان مهوسا بالبحث عن طروادة المفقودة، قرأ عنها في طفولته وبقيت عالقة في ذهنه، وقرر أن طروادة حقيقة واقعة وليست أسطورة، وبعد أن ملك المال قرر أن يلاحق حلمه بالعثور عليها، لكنْ مثل كلِّ مذكراته، ضاعت حقيقة بحثه بين الواقعية والتلفيق.
أوصاف المدينة.. تنقيب في نص الإلياذة والتلال المشابهة
عندما بلغ “شليمان” 45 عاما انغمس في البحث والتعلّم لكي يثري سيرته الذاتية والأكاديمية، وتركزت أبحاثه على إثبات أن طروادة موجودة، فانتقل إلى أثينا مع زوجته اليونانية الجديدة “صوفي”، وخطط للقيام برحلة على ساحل المتوسط.
وقد ذهب إلى جزيرة إيثاكا مسقط رأس “أوديسيوس” بطل ملحمة “أوديسا”، ثم ذهب إلى تيرانت وميسينيا، ثم توجه إلى حدود الإمبراطورية العثمانية في آسيا الصغرى (تركيا اليوم)، ووصل إلى طروادة عن طريق الأدلة والإشارات في الإلياذة، فهناك أسماء مثل “ليسبوس”، وأنواع من الأعشاب والحيوانات، كلها تطابق ما ورد في الإلياذة.
بقايا مدينة طروادة المتواجدة في بتركيا
ذكرت الإلياذة مدينة يجري فيها نهران باتجاه المضيق، وهي على هضبة بينهما، لكن “هوميروس” لم يعطِ في إلياذته مزيدا من التفاصيل، فقيل إن اليونانيين وصلوا مضيق “هيليسبونس” بالقارب، وقيل أنشأوا مخيما عند مصب “سكاماندر” لفرض حصارٍ على طروادة، لكن التلال كثيرة عند ذلك النهر، وبها آثارٌ وقبور أمكن التعرف على بعضها، كقبور أخيل وهرقل وآياس وفطرقل.
بدأ “شليمان” عمليات تنقيب في تل “باليداغ”، ووجد فيه قبورا وبقايا سور من الحقبة الرومانية، ولكن التلّ يبدو أصغر من أن يتسع لقصر “برايام” الضخم الذي يحتوي على 62 غرفة، والموقع كذلك بعيد عن الساحل، مما يقلل من فرضية أن هذا هو موقع طروادة.
فاته القارب فعثر على طروادة.. محاسن الصدف
أصيب “شليمان” بالإحباط، وتوجه إلى ميناء تشاناكالي، وهناك التقى شخصا غيّر مسار تفكيره، ومن حسن حظه أنه فاته القارب الذي كان سيحمله إلى إسطنبول، فالتقى “فرانك كالفرت” القنصل الإنجليزي، فأخبره أنه اكتشف مكان طروادة في مكان يسمى “هيسالريك”، وأنه يتطابق أيضا مع أوصاف هوميروس.
ولفهم الموقع لا بد من الإحاطة بثلاثة عوامل رئيسية: فقه لغة هوميروس، والموارد الأثرية، ونصوص الحثيين المكتوبة. ولا شك أن الجغرافيا قد تغيرت كثيرا عن ما كانت عليه أيام هوميروس، فقد كان البحر ملاصقا لتلّة هيسالريك بحسب الإلياذة. وقد اشترى القنصل “كالفرت” نصف التلّ ليحقق نبوءته، لكنه لم يكن يملك الإمكانيات للتنقيب، فعرض الشراكة على “شليمان”، فوافق على الفور. وكان ذلك في 1870.
سمحت الحكومة العثمانية لـ”شليمان” بالتنقيب، بشرط أن توضع نصف المكتشفات بمتاحف أسطنبول، وبدأ “شليمان” ورجاله الحفر كالأطفال المجانين، بدأوا بسفح التل يريدون الوصول لأعمق نقطة ممكنة، وكان يعمل لديه 70-100 عامل يوميا، وشقوا الكثير من الخنادق الجانبية، لكن “شليمان” قرر أن يخترق التلّ بخندق طويل من الشمال إلى الجنوب.
حلية الرأس الذهبية التي ربما تزينت بها “هيلين”، أو لبسها “برايام” ملك طروادة
لم يكن “شليمان” منظما في الحفر، فكان يتجاوز الطبقات عميقا ليصل إلى هدفه، دون اكتراث بالتسلسل الزمني لهذه الطبقات، وبالفعل بدأ يعثر على مقتنيات وفخاريات وحلي. وخلال الأعوام الثلاثة الأولى وجد جميع جدران العصر البرونزي والطبقات المحترقة، الأمر الذي أكّد له أنه وجد طروادة.
لكنه في المقابل أحدث أضراراً في المكان لم يحدثها أخيل وأوديسيوس عندما أحرقوا المدينة، لقد وجد سورا خارجيا مدفونا على عمق أمتار، ووجد كاتدرائية.
تهريب الكنز.. صراع في القضاء وصفقة للبيع في الغرب
في 31 مايو 1873 وجد “شليمان” طروادة، وحقق اكتشافا غير مسبوق، لقد وجد كنزا من الذهب، وترك جميع العمال يغادرون، وبقي وحده، عندما بدأ يرى لمعان الذهب في التراب، أخرج عقدا جميلا وتاجا وعددا من الأقراط والحلي الصغيرة، لقد اكتشف عشرين مخبأ تحوي كنوزا مختلفة بلغت 10 آلاف قطعة، لقد وجد كنز “برايام”.
كان حدثا عالميا كبيرا، وبات “شليمان” أشهر عالِم آثار في العالم، ونشر أبحاثه بعدة لغات، وترك بصمة واضحة في وضع “قاعدة بيانات” لعلم الآثار، وتوثيق اكتشافاته بالصور، ووضْع خطة واضحة للمكان، ونشر صوره وكتاباته بعنوان “أطلس أصل طروادة”. بينما طُوي اسم “كالفرت” الذي قاد “شليمان” إلى أول الطريق.
في تلك الأثناء كانت الحكومة العثمانية حاضرة باستمرار لتذكره بالاتفاق، وكان هنالك مندوب تركي على الدوام يرافق “شليمان” وعمّاله في جميع مراحل التنقيب، وبالفعل قسمت جميع الموجودات بالتساوي، ولكن دون الكنز، فقد استأثر به “شليمان” لنفسه وخطط بدهاء للهروب به، وتوجه إلى مكان على الساحل يدعى كرانلي كليمان، ومن هناك إلى جزيرة سيروس ثم إلى أثينا.
خبأ “شليمان” الذهب في قبو المدرسة الفرنسية في أثينا، ولاحقته تركيا قضائيا لمدة عامين، فدفع مبلغ 50 ألف فرنك مقابل حكم قضائي، وهذا مبلغ سخيف للغاية مقارنة بالكنز، وعرض الكنز للبيع على اثنين من أكبر المتاحف الأوروبية آنذاك؛ وهما اللوفر الفرنسي، والمتحف البريطاني، وعرض المجموعة بأكملها مقابل مليون فرنك.
رفض المعرضان الشراء ولم يثقا بفرضيات علم الآثار التي اتبعها شليمان، وكانت أبحاثه التي قدمها تحوي تناقضات وحكايات من نسج خياله، بل ذهب كثير من علماء الآثار إلى التشكيك في أنه وجد كنزا، أو أن المنطقة التي كان ينقّب فيها هي طروادة.
عشرة أجيال في الطريق إلى طروادة.. شليمان يخرب حلمه بيديه
في عمليات التنقيب في ميسينيا أقر “شليمان” أنه ارتكب خطأ، فقد كانت الفخاريات الموجودة تختلف عن تلك التي عثر عليها في طروادة، أي أنها من حقبة زمنية مختلفة، وبالعودة إلى حفريات طروادة اكتشف أنه قد مرّ على عشرة أجيال، تعاقبت على مدى 3000 عام، خلال الحفر في التلّ إلى الطبقات السفلى. وأن طروادة التي بحث عنها كانت بين الطبقتين السادسة والسابعة.
كما تبين له لاحقا أنه قام بتدمير آثار ومعابد أثناء الحفر، وأنه تجاوز حقبة طروادة بكثير، وأن المقتنيات التي وجدها تعود إلى أحقاب مختلفة، وليس شرطا أن تكون كنوز الملك “بريام”، وهو الأمر الذي عزز شكوك العلماء حول أطروحات “شليمان”، واتهموه بحب الظهور والسعي وراء الذهب، والغطرسة في التعامل مع الآثار التي هي أعظم الكنوز البشرية.
من جهته شعر “شليمان” بالضيق الشديد، حينما علم أنه دمر كثيرا من أجزاء المدينة التي كان يحلم بالعثور عليها. وقد توفي عام 1890 تاركا خلفه كنزا معروضا في متحف برلين.
كنوز النازية.. غنائم الحرب المهربة إلى بلاد السوفيات
في 1945 غزت القوات السوفياتية برلين إبان الحرب العالمية الثانية، وعمّ الدمار والفوضى المدينة، وأثناء الحرب كان النازيون يحاولون الحفاظ على مقتنيات متاحف ألمانيا، فخبؤوها في أماكن مختلفة، ونُقل كنز “برايام” إلى برج مضاد للطائرات في حديقة برلين، لكن برج “فليك” المنيع سقط في مواجهة 7500 طائرة و6 آلاف دبابة ومليونين ونصفا من جنود الحلفاء، واختفى الكنز.
عندما تفكك الاتحاد السوفياتي في 1989، فَتحت مقالةٌ عن الكنوز المسروقة إبان الحرب أبوابَ فضيحة مدوية، فقد عثر صحفيان روسيان هما “كونستانتين أكينشا” و”جورجي كوزلوف” على مجموعة من الوثائق تفيد أن الكنز وقطعا أثرية ثمينة أخرى، قد أُرسلت إبان الحرب إلى الاتحاد السوفياتي، وقد اعتبرها السوفيات آنذاك تعويضا عن خسائر الحرب التي تكبدوها.
لقد نُقل الكنز ومجموعة من الأحجار الكريمة على متن طائرة إلى موسكو، وهناك اختفت عن الأنظار مدة 45 عاما، حتى تقرر عرضها أمام الجمهور عام 1993، وخلال كل تلك الفترة كانت إدارة متحف “بوشكين” تخاطب القيادة السوفياتية حول ما يجب فعله بهذه الكنوز، وكان الجواب أن الوقت مبكر للحديث عن ذلك، حتى ظهر ذلك التحقيق الصحفي.
لا يزال الكنز معروضاً في روسيا، لكن الألمان واليونانيين والأتراك ما زالوا يتجادلون حول ملكيته، بينما يرى العلماء أن هذا الكنز لا يخص دولة بعينها، بل يخص الإنسانية عموما، والمهم أن يبقى متاحا، ليس فقط للجمهور حتى يراه، ولكن أيضا للعلماء والباحثين ليطبقوا عليه نتائج دراساتهم الحديثة.
المصدر: aljazeera.net