منوعات

دوائر المحاصيل الزراعية ظاهرة تثير النقاش في بريطانيا

يعتبر الظهور المفاجئ لدوائر المحاصيل الزراعية في الحقول [أنماط هندسية غريبة تظهر بشكل غامض بين ليلة وضحاها] في مختلف أنحاء الريف البريطاني بين أبريل (نيسان) وسبتمبر (أيلول)، أحد أغرب المشاهد الموسمية التي يمكن أن نراها.

وقد باتت تلك الظاهرة موضوع إثارة منتظمة في وسائل الإعلام، وغالباً ما يجري تجاهلها باعتبارها خدعة واضحة يعمل على تدبيرها انتهازيون ريفيون ماكرون.

ويأملون بأن يجذبوا من خلالها سياحاً فضوليين من المدن، كي يفرضوا عليهم كُلف دخول باهظة لقاء مشاهدة ما قد يكون ربما، ليس سوى ربما، دليلاً على وجود سلالة فضائية تسعى إلى التواصل مع الحياة الذكية على كوكبنا.

وفي المقابل، عمل بعض المخادعين المحترفين من أمثال دوغ باور ودايف تشورلي على ترسيخ تلك الصورة، إذ ادّعيا سنة 1991 على نحو مثير، بأنهما نفذا مئات من تلك الدوائر على مدى الأعوام الـ 15 الأخيرة، من خلال تسطيح المحاصيل بألواح من خشب، وقياس أنماطها بحبال طويلة.

وبجسب توضيح من “مجلة سميثسونيان” The Smithsonian Magazine، فحينما ظهرت للمرة الأولى دوائر المحاصيل الزراعية للثنائي باور وتشورلي، “خرجت إلى العلن موجة من الأفكار الصوفية وأخرى ترتبط إما بالسحر أو ببحوث علمية حقيقية أو زائفة، إضافة إلى نشوء كثير من نظريات المؤامرة بشأنها وسط أجواء من الصخب والفوضى بشكل عام، وقد جرى التعامل مع تلك الأنماط الهندسية المنقوشة في الحقول الزراعية كعدسة تتمكن من خلالها زمرة الأفراد المهتمين بمثل تلك الظواهر الغامضة، أن يبحثوا في إمكانات تفاعل طاقات الكوكب وتدخل الأرواح القديمة والمعاناة التي تواجهها “أمنا الأرض” إزاء الدمار البيئي الوشيك، وأن يتلمسوا أيضاً أدلة تشير إلى اختبار أسلحة سرية، وبالطبع إلى إمكان وجود كائنات فضائية”.

وعلى الرغم من ذلك لم يستطع دوغ باور إلا أن يعتبر نجاح خدعة الصحون الطائرة التي ابتكرها أمراً مثيراً للضحك، ففي 1999 نقل إلى برنامج “كاونتري فايل” Countryfile الذي تعرضه شبكة “بي بي سي”، فيما حاول إخفاء ضحكته، إن “هؤلاء الباحثين المزعومين ربطوا ما بين دوائر المحاصيل التي أنشأناها وكوم المدافن أو حصون التلال القديمة، وفي الواقع لا توجد أي صلة من هذا النوع على الإطلاق، ففي ما يتعلق بنا تمثل الهدف في أن نمرح بعض الشيء”.

أما بالنسبة إلى بعض الأفراد الآخرين الذين يعرفون باسم “كروبيز” Croppies (تسمية لمن يعتقدون بأن دوائر المحاصيل حقيقية)، فيعتبرون أن كل تلك الجلبة ليست سوى محاولة لإلهاء الناس عن ظاهرة أكثر جدية، تشكل دليلاً قاطعاً على وجود حوادث خارقة للطبيعة في عصرنا وتتمثل في تصاميم تلك الدوائر التي تتخذ أشكالاً هندسية مزخرفة ورسومات تحمل معالم شبيهة بأحرف الأبجدية الجرمانية القديمة، وتتمدد وسط صفوف الذرة والقمح والشعير، واستطراداً تشكل تلك الظواهر مؤشرات كبيرة ومعقدة للغاية، بل لا يمكن حصرها في تأويلات ظرفية وانتقادات مفعمة بالسخرية.

وفي تحقيق استقصائي أجرته شبكة “بي بي سي” أخيراً عن تلك الظاهرة، تحدث دانييل ستابلز عن رحلة أنجزها بهدف رؤية إحدى تلك الدوائر بنفسه، فقصد منطقة “ويلتشير” التي يذكر إنها تضم حوالى 80 في المئة من دوائر المحاصيل الزراعية الـ 30 التي تظهر في بريطانيا سنوياً، بل تنشأ كثرة منها قرب موقعي آثار العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في “ستونهينج” و”أفيبري”.

واستطراداً، لم يتمكن ستابلز من سوى ترسم “خطوط متقاطعة في محاصيل القمح المداسة” على مستوى الأرض، ويشبه ذلك الشكل خطوط منظار البندقية، وكذلك فإنه سرعان ما استبعد إمكان أن تكون الدائرة بصمة من خارج كوكب الأرض حينما ظهر أحد المتفرجين، “وهو رجل مستكرش يرتدي إحدى قمصان “دارك سايد أوف ذا مون” Dark Side of the Moon [الجانب المظلم من القمر]، كي يشير إلى أن تلك الأشكال النمطية تشبه إلى حد كبير شعار حانة “بارج إن” Barge Inn القريبة في بلدة “هونيستريت”، مما يعني ضمناً أن ذلك النموذج بالذات هو من صنع الإنسان.

وفي سياق متصل، شوهدت دوائر المحاصيل الزراعية في مختلف أنحاء العالم، من ولاية كاليفورنيا الأميركية إلى الصين وإندونيسيا وأستراليا، لكن الاهتمام بظهورها في بريطانيا تنامى بشكل مطرد منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين (آنذاك استخدم باور وتشورلي منزلهما المتنقل الأول أثناء عودتهما من تلك الحانة سنة 1976) إلى أن عاودت تلك الظاهرة الانتشار على نطاق واسع أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، واستمرت طوال أعوام التسعينيات من ذلك القرن، حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

منذ ذلك الوقت، شملت الأمثلة البارزة [عن ظاهرة دوائر حقول المحاصيل] ظهور دائرة على شكل “كسورية رياضية” [شكل هندسي يمكن تقسيمه إلى أجزاء كل منها نسخة مصغرة الحجم عن الكل وتسمى “فراكتال”] تعرف باسم مجموعة “جوليا”، وذلك بالقرب من موقع “ستونهينج” سنة 1996، وأخرى مشابهة لها سنة 2001 في تلة “ميلك هيل” القريبة [أعلى نقطة في مقاطعة ويلشير]، التي يعتقد أنها إحدى أكبر الكسوريات على الإطلاق، إذ تمتد على 900 قدم (275 متراً).

وقد لا يكون من قبيل المصادفة بالتأكيد ظهور فيلم “ساينز” Signs الأميركي الذي حقق نجاحاً في شبابيك التذاكر [شريط روائي يتضمن إثارة وخيالاً علمياً صدر في 2002] للمخرج مانوج نايت شيامالان، من بطولة ميل غيبسون الذي لعب دور كاهن تحول إلى مزارع تنتابه الحيرة من بروز ظاهرة دوائر المحاصيل في حقول الذرة في بنسلفانيا، وقد ظهر الفيلم إبان فترة الذروة في تلك الظاهرة سنة 2002 أيضاً.

وفي هذا السياق، برز أيضاً مسلسل “ذا أكس فايلز” The X-Files الذي اشتهر بعبارته “الحقيقة موجودة أمامكم” المتمحورة حول نظرية المؤامرة، كي يحقق ذروة شهرته في الأعوام الأخيرة من الألفية الماضية.

في المقابل، ما زلنا نرى اليوم دوائر المحاصيل في 2021، وتشتمل تشكيلاتها هذا الصيف في موقع “أفيبري”، دائرة على نمط سداسي تحيط بها خطوط حلزونية، فيما تتسم تشكيلات أخرى بتصاميم رائعة تطلبت جهداً خاصاً، موجودة في “أوكفورد هيل” بالقرب من “بلاندفورد” في “دورسيت”.

وفي صورة عامة، سواء صنع ذلك التقليد من قبل الإنسان أم لا، فإنه يشكل ظاهرة عابرة للقارات تعود إلى سنة 1678 على الأقل في بريطانيا، حين سجل كتيب أعيد اكتشافه سنة 2011 ضمن مجموعة خاصة من الكتب، حوادثاً غريبة مماثلة حصلت في “هيرتفوردشير” خلال القرن السابع عشر، حينما ساد اعتقاد بأنها من أعمال الشيطان.

وإذ يعتقد أن ما سجل في ذلك الكتيب يشكل أقدم نص مدون عن دوائر المحاصيل، وقد ازدان برسوم خشبية عن شيطان يمسك منجلاً حاداً، فيما تصف الكلمات المكتوبة مجموعة من العصي المقطوعة “رصفت بدقة بالغة في ليلة واحدة، فيما يتطلب ما يربو على دهر من الزمن كي ينجز شخص عادي ذلك الأمر”.

وفي المقابل، قدم تفسير أكثر علمية عن ظاهرة دوائر المحاصيل في العام 2009 من جانب كولين أندروز، وهو مهندس حكومي محلي مول أبحاثه عن ذلك الموضوع لورانس روكفلر، الملياردير الأميركي المتحدر من السلالة الشهيرة لأثرياء النفط، ويعتبر من أكبر المهتمين بمسألة “الأجسام الطائرة المجهولة”Unidentified Flying Object (UFO) .

في تفسيره، اعتبر أندروز أن 80 في المئة من دوائر المحاصيل الزراعية في بريطانيا ملفقة من قبل مخادعين محترفين من أمثال باور وتشورلي، فيما تأتي الـ 20 في المئة المتبقية من تقلبات في القوى المغناطيسية الطبيعية للأرض، أدت إلى “صعق المحاصيل بالكهرباء” مما يجعلها تنهار.

وزعم هذا المهندس المحلي أنه أنشأ قاعدة بيانات تضم قرابة 10 آلاف دائرة رصدت في مختلف أنحاء العالم، واستأجر محققين خاصين في تعقب المخادعين. وفي المقابل، أخبر أندروز برنامج “توداي”  Todayعلى إذاعة “بي بي سي راديو 4″، أن “الـ 20 في المئة المتبقية من الدوائر تظل مسألة أخرى مختلفة تماماً، وأعتقد أن المجال المغناطيسي للأرض له علاقة مباشرة فيها”.

وأخيراً، أصر أندروز على أن “ما أفعله يستند إلى حقائق مجردة، ونحن نعمل على قياس الاختلافات في المجال المغناطيسي، وأعتقد أننا حققنا إنجازاً مهماً للغاية في تلك النقطة”.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى