في الفترة الممتدة ما بين نهاية الحصاد وبداية الخريف، عكفت منى الحسن، على جمع روث الأبقار من المربّين، لتعجنه مع القش الذي جمعته من مخلّفات زراعة القمح والشعير في محيط قرية محيميدة، في ريف دير الزور الغربي.
تقول السيدة الخمسينية لرصيف22، إن عجن الروث بالقش وتحويله إلى أقراص تجفَّف في الشمس سيكون مؤونتها لمواجهة برد الشتاء، وتضيف: “كان بيت جدي دافئاً بفعل هذه الطريقة.
قد يبدو الأمر مزعجاً أو مقرفاً في أثناء العمل على تجهيز هذا الخليط الذي تضاف إليه أحياناً عيدان خشب صغيرة، لكن الدفء الناتج عن احتراقه ليس عادياً، وهو مجاني تقريباً، فلا أحد يبخل بالمخلّفات بالرغم من أن هناك من يعرض شراءها لاستخدام الروث كسماد طبيعي، والقش كعلف، لكن حاجة الناس تلبّى إن طُلبت هاتان المادتان بغرض التدفئة”.
تشير السيدة التي هربت من الأحياء الشرقية لدير الزور خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية: “الوقود الذي في مناطق الجزيرة (شرق الفرات)، غير آمن، ولا يمكن أن أغامر باستخدامه بالرغم من رخص ثمنه، لكونه تسبب بحرائق وحالات موت ناتجة عن انفجار المدفأة، إذ إنه يكرَّر بشكل بدائي”، وتعتقد أن تجفيف أقراص “الجْلَة”، تحت أشعة الشمس، يخلصها من كل ذلك ويجعلها مادةً ذات اشتعال جيد.
يجد معظم السوريين اليوم صعوبة في توفير الوقود اللازم للتدفئة وهم على أعتاب فصل الشتاء.
يجد معظم السوريين اليوم صعوبةً في توفير الوقود اللازم للتدفئة، وهم على أعتاب فصل الشتاء، ففي مناطق سيطرة الحكومة السورية، يمكن للأسرة أن تحصل على 50 ليتراً فقط من الوقود بالسعر المدعوم، وعليها الانتظار لفترة طويلة، وإلا اللجوء إلى السوق السوداء، كما أن أسعار المحروقات في مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة ترتفع بشكل كبير.
وغالبية سكان المخيمات في الشمال لا يملكون مصادر دخل ثابتةً، لذا تبدو خيارات التدفئة بالنسبة لهم محصورةً في ما جمعوه خلال الصيف من أحذية تالفة، أو حطب من التعدي على المساحات الحرجية، أو حتى من خلال إحراق إطارات مطاطية حصلوا عليها من مكبات النفايات.
لكن، لا ينظر السوريون دائماً إلى خطورة هذه الخيارات على صحتهم، نتيجة التعرض للغازات السامة الناتجة عن احتراق المواد المطاطية والبلاستيكية، وقليلاً ما يتّبعون وسائل للوقاية من تلك المخاطر.
كما أنهم نادراً ما يفكرون في الضرر البيئي الناتج عن احتراق المواد العضوية، ما دامت الغازات المنبعثة من المواقد تخرج من مداخن منازلهم نحو الهواء الطلق، لتبددها الريح، فلا يشعرون بالروائح النتنة أو الضارة، ولا يكترثون في نهاية المطاف سوى بالحصول على قليل من الدفء.
وقود نباتي
يعود الظهور الأول لمدفأة القشور، إلى ما قبل بدء الحدث السوري، ولم يكن خياراً معتمداً بكثافة نظراً إلى توافر الوقود الاعتيادي الذي كان يسهل الحصول عليه.
من الناحية التقنية، تتألف هذه المدفأة من قسمين، الأول خزان للوقود المؤلف من قشور نباتات عدة، مثل الفستق الحلبي واللوز والبندق والفستق، ويحتاج إلى وجود بطارية 6 فولط، يضاف إليها شاحن 5 أمبير، ويكفي وصل الشاحن بالتيار الكهربائي لمدة ساعة واحدة، لتتمكن البطارية من تشغيل محرك نقل الوقود من الخزان إلى غرفة الاحتراق في القسم الثاني من المدفأة، والمؤلف من المدفأة العادية بعد تعديلها وإضافة درج إليها يكون بمثابة خزان لنواتج الاحتراق.
عجن الروث بالقش وتحويله لأقراص تجفف في الشمس سيكون مؤونتي لمواجهة برد الشتاء. قد يبدو الأمر مزعجاً أو مقرفاً في أثناء العمل على تجهيز هذا الخليط الذي تضاف له أحياناً عيدان خشب صغيرة، لكن الدفء الناتج عن احتراقه ليس عادياً، وهو مجاني تقريباً
لا يبدو سعر مدفأة القشور اقتصادياً بالنسبة إلى ذوي الدخل المحدود، فهو يتراوح بين 500 ألف و1.2 مليون ليرة سورية (100 إلى 250 دولاراً)، فيما يبلغ سعر الطن الواحد من هذا الوقود نحو 1.4 مليون ليرة (300 دولار)، ويكفي الطن لشتاء مدته بين 3 و4 أشهر بمعدل تشغيل يصل إلى عشر ساعات يومياً.
وبالقياس إلى أسعار السوق السوداء لوقود التدفئة (الديزل)، والتي تصل إلى 7،000 ليرة لليتر الواحد (1.5 دولارات)، يبدو أن تكلفة وقود القشور التي تعالج لتكون على شكل كبسولات صغيرة، أقلّ، فالاحتياج اليومي إلى تشغيل مدفأة الديزل لمدة عشر ساعات يتراوح بين 5 و7 ليترات، ما يعني أن تدفئة 10 ساعات يومياً لمدة شهر ستحتاج إلى قرابة مليون ونصف مليون ليرة، أي نحو عشرة أضعاف دخل الموظف الحكومي شهرياً.
ويشير المهندس الزراعي رائد الأحمد، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن وقود القشور غير مضرّ صحياً، لكون نواتج الاحتراق تشابه تماماً نواتج احتراق الحطب من غازات ثاني وأول أوكسيد الكربون، وكميات نواتج احتراق هذا الوقود من الغازات أقل بكثير عن مثيلتها من احتراق الديزل.
من مدافئ قشور النباتات التي تباع في سوريا – خاص رصيف22
مخلّفات عصر الزيتون
مع بداية الخريف وموسم قطاف الزيتون وعصره، تتوفر في سوريا مادة “البيرين” بكثرة، وهي ناتجة عن إعادة تدوير مخلّفات هذه العملية، وتنتشر في أرياف حماه والساحل السوري وإدلب وريف حلب ورشات تشتري هذه المادة من المعاصر، وتستفيد من رطوبتها لضغطها بواسطة مكابس، وإنتاج قطع “البيرين” على شكل أسطواني، توضع تحت أشعة الشمس لتجفَّف بقدر يسمح بنقلها إلى الأسواق من دون تلفها أو تفتتها.
يقول نضال يحيى، وهو صاحب بستان زيتون في قرية تتبع لمدينة جبلة الساحلية، لرصيف22: “اتفقت مع صاحب المعصرة على أن يكون ‘تفل’ (أي مخلّفات) الزيتون من نصيبي، أنقلها إلى صاحب إحدى الورش ليحولها إلى أقراص أستخدمها في التدفئة، وهي لا تحتاج إلى مدفأة مصنعة بطريقة خاصة، فيمكن إشعالها في مدفأة الحطب أو القشور أو حتى الديزل”.
أنقل مخلّفات عصر الزيتون إلى صاحب إحدى الورش ليحولها إلى أقراص أستخدمها في التدفئة.
وينبّه المهندس الأحمد إلى خطورة الغازات الناتجة عن احتراق البيرين، وهي تفوق تلك التي تنتج عن احتراق أي مادة نباتية أخرى، نظراً إلى وجود زيوت يتحول احتراقها إلى غازات سامة ذات تركيز عالٍ.
لكن كثيرين من السوريين يجدون أن هذه المادة أرخص من غيرها، فالقرص الذي يزن كيلوغراماً واحداً بيع خلال العام الماضي بسعر 1،500 ليرة (30 سنتاً حسب سعر الصرف حينها)، وهو يكفي لتشغيل يتراوح بين 5 و6 ساعات متواصلة، في حين من المتوقع أن يصل سعره إلى نحو 4،000 ليرة خلال الموسم الحالي (80 سنتاً وفقاً لأسعار الصرف الحالية)، وبحسبة بسيطة ستعادل تكلفة التشغيل لمدة10 ساعات يومياً، 1.6 دولارات، أي 48 دولاراً شهرياً (240 ألف ليرة)، وتالياً يحتاج موسم الشتاء إلى 960 ألف ليرة (راتب موظف حكومي لمدة ستة أشهر).
ويعود استخدام “البيرين” في عمليات تشغيل الأفران الحجرية أو بعض الورشات خلال فترة ما قبل الحرب في سوريا، ويقول محمد رمو، المتحدر من مدينة عفرين في ريف حلب، إن والده كان يشغل فرناً حجرياً لإنتاج الخبز المشروح بمادة البيرين منذ العام 2007، نظراً إلى وجود عدد كبير من شجر الزيتون في المنطقة، ولم يكن ثمة طلب كبير على هذه المادة لتوافر الوقود والحطب بكثافة حينها.
كحول طبي للتدفئة
تعرّف “نيرمين”، بنفسها باسم “roz sy”، وتعمل مسوّقةً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتنشر عبر مجموعات عدة على فيسبوك، الذي يُعدّ الأكثر شعبيةً لدى السوريين من بين المواقع المماثلة، إعلاناً عن مدفأة تعمل بالكحول الطبي، وتزعم بأن ليتراً واحداً من الكحول يكفي لتشغيل المدفأة لعشر ساعات متواصلة، وتؤكد للزبائن أن المنتج الذي تعرضه “ممتاز ورخيص”، فسعره لا يتجاوز 80 ألف ليرة (16 دولاراً).
وبالرغم من أنه ليس مبلغاً كبيراً، لكنه يعادل في الوقت ذاته نصف قيمة راتب الموظف الحكومي، وتالياً فإن شراء منتج غير مجرّب من قبل أشخاص موثوقين يُعدّ لكثيرين مغامرةً غير محسوبة النتائج، بالرغم من بحثهم عن وسيلة تدفئة رخيصة قبل بدء فصل الشتاء الذي قد يكون أكثر قسوةً من التوقعات.
احتراق الكحول له أضرار تسبب بانبعاث غازات متعددة كلها ضارة، كما أنها عملية غير آمنة بالمطلق، فهو مادة سريعة الاشتعال ولا يمكن اعتبارها بأي حال صالحة للتدفئة
تشير الصيدلانية صفية النعمان، في حديثها إلى رصيف22، إلى أن الكحول الطبي متوفر في الصيدليات بالكميات التي تُطلب، وسعر الليتر يتراوح بين 6،000 و7،000 ليرة سورية، لكن احتراق الكحول سريع، ولا تتوقع أن يزيد الطلب على استهلاك هذه المادة بسبب طرح المدفأة التي تعمل بالكحول الطبي، لأن مواقع التواصل الاجتماعي كانت قد شهدت سابقاً طرح منتج عُرّف كموقد يعمل على الكحول، من دون حدوث زيادة تُذكر في الاستهلاك.
وتضيف الصيدلانية التي تعمل في دمشق، أن احتراق الكحول له أضرار إذ يتسبب في انبعاث غازات متعددة كلها ضارة، كما أنها عملية غير آمنة في المطلق، فهو مادة سريعة الاشتعال ولا يمكن عدّها في أي حال صالحةً للتدفئة.
قبل فترة، طُرح عبر التلفزيون السوري الحكومي في حلقة خاصة بثتها إحدى قنواته: “بماذا سيتدفأ الأوروبيون؟”، بعد أزمة الطاقة التي حدثت على خلفية الحدث الأوكراني، وربما كان الأجدر أن تكون ثمة مساحة للسؤال عن الوقود الذي سيستخدمه السوريون خلال الشتاء الذي بدأ يدقّ أبوابهم، في ظل قلة توريد المحروقات من خارج الحدود، وعدم قدرة مصفاتي النفط الوحيدتين في البلاد على تلبية احتياجات السوق المتزايدة.
وربما من باب أولى أن تكون ثمة توعية بالمخاطر المباشرة لكل نوع من البدائل التي باتت معتمدةً من قبل السوريين بحثاً عن الدفء، وهي مخاطر صحية مباشرة التأثير، ومخاطر بيئية قد لا يلمسها المواطن، أو يهمل التفكير فيها لصالح الحصول على الدفء.
المصدر: رصيف 22