النيازك أجرام صغيرة تشبه النجوم أو ما أسماها البعض بقطرات الذهب تقوم بالاصطدام بالدرع الواقي المحيط وهو الغلاف الجوي فتنفجر وتتفكك إلى أجزاء يصل بعضها إلى الأرض على شكل كرات ملتهبة.
وبين الحقيقة والخرافة يحكى في قديم الزمان أن بعض الحضارات السابقة كانت تعتبر وقوع النيزك علامة إلهية تنبئ بحدوث خير أو شر, كما استخدم قديما في بعض العلاجات الطبية واليوم تأتي قيمة النيازك علميا لا جوهريا فتركيبها عبارة عن معادن متنوعة ذات قيمة أرخص من الذهب لكن كونها من الفضاء الخارجي جعلها تنافس الذهب والأحجار الكريمة وأصبحت محط أنظار من يعمل بالتنقيب!
يمكن أن تسقط النيازك في كل مناطق العالم، لكن العلماء والباحثين احتاروا في تفسير سبب سقوط النيازك في مناطق معينة أكثر من أخرى.
ويعتبر المغرب العربي بحكم موقعه الجغرافي في شمال غرب القارة الأفريقية موطنا للنيازك، وتحول في السنوات الأخيرة إلى قبلة مفضلة لصائدي الصخور النيزكية التي يضاهي ثمن بيعها المعادن النفيسة، نظرا للطلب الكبير عليها من قبل المتاحف والمراكز البحثية في أوروبا وأمريكا الشمالية.
حيث أن القارة الأفريقية تعتبر موطن ثاني أكبر تجمع نيزكي، بعد القارة القطبية الجنوبية.
ويحكي الفيلم الوثائقي “الباحثون عن النيازك” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، قصص جامعي هذه الأحجار الثمينة في جنوب المغرب، الذين تحولوا إلى راصدين للشهب والنيازك، ويعتمد عليهم الباحثون الأكاديميون في تتبع الظاهرة ومعرفة مكان سقوط النيازك.
لمشاهدة الفيلم الوثائقي اتبع الرابط في الاسفل.
فما هي إذن قصة هذه النيازك القادمة من الفضاء، وما هي أهمية هذه الأحجار من الناحية العلمية؟ ولماذا تباع بأثمان باهظة للمتاحف ومراكز البحث؟
ثروات الصحراء.. هدية السماء إلى البدو الرحل
تزايد الاهتمام بالنيازك بعد أن ذاع صيتها، وتناسلت قصص الاغتناء بفضلها، فـأصبح البحث عن هذه الأحجار القادمة من الفضاء بمثابة التنقيب عن الكنز الضائع.
خصوصا في بعض المناطق القاحلة في المغرب والجزائر، إذ شهدت في السنوات العشر الأخيرة سقوط نيازك وصلت شهرتها إلى العالمية.
ولعل من أشهرها نيزك تيسنت، نسبة إلى قرية صغيرة بإقليم طاطا في جهة سوس ماسة جنوب المغرب.
فقد تحولت القرية صيف 2011 إلى قبلة لصيادي وهواة جمع الأحجار النيزكية، بعد أن أكد سكان القرية سقوط شهاب ناري في مكان قريب منهم.
وبعد العثور عليه من قبل أحد صيادي النيازك المحليين، بيع هذا النيزك النادر القادم من كوكب المريخ بمبلغ مالي ضخم، ويوجد حاليا في متحف التاريخ الطبيعي في لندن.
وساهم نشاط البدو الرحل والباحثين المحليين عن النيازك، في اكتشاف أحجار نيزكية أخرى في المنطقة.
خصوصا في موقع توفاسور قرب طاطا، ومواقع أخرى في الصحاري الممتدة في جنوب وجنوب شرق المملكة المغربية، وتتحدث أرقام رسمية عن مساهمة البدو والمستكشفين الخاصين في إيجاد ما يقرب من 12 ألف نيزك في صحراء شمال أفريقيا.
حديد ونيكل أغلى من الذهب.. قيمة المعادن العلمية
تتحكم تركيبة الأحجار النيزكية في تحديد قيمتها والمعلومات التي توفرها، وغالبا ما تكون عبارة عن معادن غنية بالسليكون والأوكسجين، أو مشكلة من الحديد والنيكل، أو من الحديد الصخري الذي يجمع الاثنين معا.
وتعتبر القيمة المعدنية للأحجار النيزكية غير عالية، فمكوناتها لا تحتوي على معادن ثمينة، وتتشكل بالأساس من الحديد والنيكل، وهما معدنان متوسطا القيمة.
لكنها تبقى أجساما غريبة قادمة من بيئة مختلفة عن كوكب الأرض، وهذا ما يجعلها مطلوبة من قبل المراكز البحثية الأوروبية والأمريكية.
وقد شرعت هذه المراكز منذ نحو 50 عاما في دراسة النيازك والتمحيص في المواد المكونة لها، واستغلال نتائج هذه الدراسات في مجالات الفضاء وعلوم الفلك والبيئة.
وقد توصل العلماء والباحثون إلى أن هذه الأجسام الفضائية يمكن أن توفر معلومات مهمة وقيمة حول نشأة نظامنا الشمسي قبل حوالي 4.6 مليار سنة، كما ساعدت في معرفة الظروف التي تشكلت فيها المياه لأول مرة، والعناصر الأولية الأساسية للحياة.
كما يرى بعض العلماء أن التركيب الكيميائي للأرض تغير بسبب سقوط كبير للنيازك قبل آلاف السنين، وهو ما يدعم النظرية التي تربط بين هذه الظاهرة وتكون المعادن الثمينة كالذهب، وأخرى كالنحاس، في القشرة الأرضية.
ونظرا لندرة وقيمة هذه الأحجار من الناحية العلمية، باعتبارها أقدم جسم استطاع الإنسان أن يحصل عليه، فإن الطلب عليها يتنامى أكثر فـأكثر، ويمكن أن تصل أحيانا قيمة الغرام الواحد من بعض الأنواع النادرة إلى أكثر من ألف دولار أمريكي.
“الجمال الأسود”.. أقدم رسائل الكوكب الأحمر إلى الأرض
تعد النيازك المريخية والقمرية نادرة، مقارنة بتلك القادمة من حزام الكويكبات الذي يقع بين مداري المريخ وزحل، وهذا ما يفسر سر الاهتمام بها أكثر، وبالمعلومات التي يكمن استخلاصها منها.
ويقدر عدد النيازك القادمة من كوكب المريخ بحوالي 424 نيزكا عثر عليها على سطح الأرض.
ومن أهم هذه الأجسام المريخية التي أثارت الاهتمام في الفترة الأخيرة، نيزك “الجمال الأسود” (Black Beauty) القادم من المريخ، ويعرف في الوسط العلمي باسم (NWA 7533).
وعثر على النيزك سنة 2012 كما تشير إلى ذلك تسميته بشمال غرب أفريقيا، واستطاع الباحثون تأكيد مكانه بالضبط في منطقة “بئر انزران” جنوب المغرب.
وقُدر عمر هذا النيزك (NWA 7533) ب4.4 مليارات سنة، مما يجعله النيزك المريخي الأقدم على الإطلاق، وساهم بشكل كبير في معرفة معلومات غير مسبوقة تتعلق بالكوكب الأحمر.
وخصوصا مسألة وجود المياه قبل 3.7 مليار سنة، على اعتبار أن نيزك “الجمال الأسود” يحمل آثارا لعملية الأكسدة التي قد تكون حصلت بالتزامن مع تشكل المياه.
كما قدم نيزك “تيسنت” -الذي عثر عليه أيضا في المغرب قرب مدينة طاطا في الجنوب – مجموعة من المعلومات المهمة عن كوكب المريخ، وأظهر تحليله المعدني تطابقه مع المكونات الأساسية لجوف الكوكب الأحمر، ومروره من نشاط بركاني بلوري سريع، قبل تعرضه لصدمة كبرى حررته من الكوكب في اتجاه الأرض.
“سيح الأحيمر”.. عودة النيزك العربي إلى موطنه الأصلي
ما زال الإنسان يواصل استعانته بالنيازك لكشف أسرار كوكب المريخ بشتى الطرق.
إذ قامت مركبة “بيرسيفرانس” التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” التي حطت على سطح المريخ في فبراير/شباط 2021، بإعادة نيزك عربي إلى تراب كوكبه الأصلي في سابقة من نوعها في العالم والتاريخ.
ويتعلق الأمر بنيزك “سيح الأحيمر” المريخي الذي يزن 8 كيلوغرامات، والذي عثر عليه سنة 1999 بسلطنة عمان.
وقد ساعدت هذه الهجرة العكسية علماء “الناسا” على معالجة الصور التي تلتقطها مركبة “بيرسيفرانس”، وإعادتها إلى ألوانها وتركيباتها الطبيعية بعد مقارنتها مع ألوان النيزك.
“تشيكشولوب”.. فوهة النيزك الذي أباد الكائنات العملاقة
لا شك أن النظر إلى النيازك في عصرنا الحالي، لا يتعدى حدود جمال منظرها وهي تسقط على الأرض، مخلفة شهابا مضيئا في السماء، أو قيمة جسم قادم من الفضاء الخارجي، يمثل كنزا نادرا للباحثين عن الاغتناء السريع، أو للعلماء الساعين للتوصل إلى تفسير للظواهر الكونية، لكن لهذه الأحجار الفضائية وجها آخر يرمز للدمار والخراب.
وكشفت آخر دراسة نشرتها مجلة “نيتشر كوميونيكيشنز” في يونيو/حزيران 2021، أن أفول الديناصورات بدأ بفعل تزايد برودة كوكب الأرض قبل وقت طويل، جراء سقوط نيزك ضخم قدر قطره بـ9 كيلومترات، وأنهى عصر الديناصورات أو سرع في ذلك، قبل 65 مليون سنة.
ويجمع العلماء على أن هذا النيزك الذي سمي “نيزك تشيكشولوب”، هو نفسه الذي أحدث فوهة عملاقة اكتشفت في المكسيك عام 1980، وقد أحدث ارتطامه في الأرض قبل ملايين السنين سحابة من الغبار والغاز غلفت كوكب الأرض.
مما أدى إلى اضطراب المناخ، وإبادة ثلاثة أرباع أنواع الكائنات الحية على الأرض في تلك الفترة، ومن بينها الديناصورات.
تسود في عصرنا الحالي تخوفات من سقوط نيازك ضخمة على كوكب الأرض، وثمة حوالي 10 آلاف كويكب صغير تحوم قريبا من الأرض، وتقوم وكالات الفضاء الدولية برصدها بواسطة أجهزة إنذار مبكرة.
وبحسب وكالة “ناسا” فإن واحدا من 165 كويكبا ضخما يهدد كوكبنا حتى العام 2116، ويمكن أن تصل القوة التدميرية لهذه الأحجار الضخمة إلى ما يعادل انفجار 30 قنبلة نووية عند ارتطامها بكوكبنا الأزرق.
ويمكن للنيازك –حتى الصغيرة منها- أن تتسبب في أضرار بيئية بعد سقوطها على الأرض، وتؤدي غالبا إلى تدمير شامل للمجال البيئي المحيط بالمنطقة النيزكية.
لكنها في المقابل قد تحول المنطقة التي سقطت فيها إلى مزار سياحي طبيعي، خصوصا إذا تحولت الفوهات النيزكية إلى بحيرات رائعة.
مثلما حدث في منطقة إملشيل بأعالي جبال الأطلس بالمغرب، حيث تسبب سقوط نيزك بقطر 120 مترا منذ حوالي 40 ألف سنة، في تكون بحيرتي “اسلي” و”تيسليت”.
وهو حدث مماثل تقريبا لما جرى تسجيله في الحفر النيزكية الثلاث الموجودة بالسعودية وليبيا وكندا.
نيازك شمال أفريقيا.. موروث جيولوجي ضائع النسب
تطرح التسمية الجغرافية للنيازك إشكالا حقيقيا بعد ترحيلها إلى المعاهد والمتاحف العالمية الكبرى، فالأصل هو أن يسمى النيزك بمكان سقوطه.
لكن ذلك لا يطبق بحسب خلاصات دراسة علمية أعدتها كلية العلوم التابعة لجامعة ابن زهر بأغادير.
فقد كشفت أن 93% من النيازك المكتشفة في عدد من الدول الأفريقية ويفوق عددها 5600 نيزك، تسمى فقط نيازك شمال غرب أفريقيا (NorthWest Africa)، دون الإشارة إلى مكان سقوطها بدقة، وهو ما يمثل ضياعا لموروث جيولوجي نادر خاص ببلدان المنطقة.
وتبرر المنظمة الأمريكية المستقلة “الجمعية النيزكية” (Meteoritical Society) -التي تقوم بتسمية وتصنيف النيازك-؛ هذا الإشكال بصعوبة توفر النيازك من شمال غرب أفريقيا على معلومات كافية عن موقع اكتشافها.
رغم أن 23٪ فقط من النيازك المسماة “NWA” المكتشفة في المنطقة تفتقر إلى معلومات عن بلدها الأصلي، وأما البقية فقد جرى التعرف عليها، وأظهرت نتائج دراسة جامعة ابن زهر بأغادير بأن معظمها تم اكتشافها في المغرب.
وساهم في تكريس هذا الوضع ضعف التجهيزات التقنية لدى جل المهتمين بالنيازك بالمناطق شبه الصحراوية، وخصوصا الرحل والبدو الذين لا يستطيعون تسجيل الإحداثيات وكتابة تقارير عن أحجار الفضاء المكتشفة.
بالإضافة إلى أن الظروف العامة في المناطق الأخرى بشمال غرب أفريقيا، لا تساعد على توثيق المعلومات.
وذلك بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني في منطقة الساحل، والتشريعات الصارمة في الجزائر التي تجرم البحث والاتجار في النيازك.
مما يؤدي إلى انتشار ممارسات سرية يدفع ثمنها البحث العلمي والإرث الجيولوجي النيزكي للمنطقة، بسبب التهريب نحو الخارج وانتعاش التجارة غير الشرعية في النيازك.
ويحاول “المتحف الجامعي للنيازك” بجامعة ابن زهر في مدينة أغادير، وهو الأول من نوعه في العالم العربي وفي القارة الأفريقية، منذ 2016 إبقاء هذه النيازك في المغرب.
ويضم المتحف حاليا نحو 150 حجرا نيزكيا، علما أن عدد النيازك المغربية في المتاحف العالمية تقدر بـ700 نيزك.