وقلّ ما يتم ذكر الجانب المادي لتلك الدولة، ربما بسبب جهل المؤرخ لهذه الفقرة من طبيعة الدولة المصرية.
لكن مقالنا اليوم، سيسهم في كشف جزء من ذلك الغموض الذي يحبط بالجانب المادي لمصر:
بلغت ديون مصر للخارج، في أبريل (نيسان) 2022، 145 مليار دولار أمريكي، هي حصيلة أعوام طويلة من احتياج مصر للاستدانة من الخارج، وذلك لحل أزماتها الاقتصادية الداخلية؛ خصوصًا في ظل عجز مزمن في كل من الميزان التجاري والموازنة العامة.
ولكن ما قصة ديون مصر على الإمبراطورية البريطانيَّة؟ هل كانت مصر بما يكفي من الغنى لتكون دولة مقرِضة؟ أم أنَّ ديون مصر كانت حالة تقليدية من استغلال الاستعمار البريطاني لمصر ومواردها الاقتصادية عندما احتاجتها الإمبراطورية؟ وخصوصًا عند حاجتها لاستغلال هذه الموارد في فترة الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص.
ديون مصر المتراكمة بعد محمد علي
في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ بدأت مسيرة مصر الحديثة على يد محمد علي باشا، والذي حاز نوعًا من الاستقلالية عن الدولة العثمانية، وإن ظلت مصر حينها تابعة رسميًّا لها، واستطاع محمد علي بدء مسيرة تحديث مصر؛ وبناء اقتصاد قوي، باتخاذ سياساتٍ حِمائية تجاه المنتجات المحلية، ودون الحاجة إلى الاعتماد على الخارج أو الاستدانة بشكل كبير.
لكنَّ استقلالية مصر وقوتها وتوسعها تحت حكم محمد علي لم يدم طويلًا؛ وبدأ حكم رجل مصر القوي يتفهَّم ضرورة التخلي عن بعض الطموحات خارج الحدود المصرية؛ بسبب التدخل الخارجي من طرف فرنسا وبريطانيا.
أمَّا خلفاء محمد علي فقد خضعوا كليةً لهذا التدخل الخارجي، ورضخوا لمطالب الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية بـ«تحرير» التجارة الخارجية، وبدء الاعتماد بشكلٍ كبير على الديون من الخارج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وللوهلة الأولى؛ بدا أن النموذج الجديد يعمل بشكل جيد؛ ربما في صورة مقاربة لما يحدث الآن، مع معدلات النمو المرتفعة رغم تكرر حدوث الأزمات وسوء حال المواطنين المصريين، ولكن سريعًا وبعد مرور 25 عامًا فقط من وفاة محمد علي، بدأت مشكلات هذا النموذج بالظهور.
ووصلت ديون مصر إلى حدٍّ لا يمكن استدامته عام 1876؛ إذ وصل الدين العام إلى قرابة 70 مليون جنيه إسترليني، بعد أن كان يبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني فقط في عام 1963، وبنمو 23 ضعفًا خلال أقل من 15 عامًا، وأصبحت فوائد الديون تشكِّلُ ثلثَي الموازنة المصرية، ونصف عوائد الصادرات.
لم يقف نمو ديون مصر العامة عند ذلك الحد؛ بل استمر في الصعود حتى وصل إلى معدلات أكثر إقلاقًا، وأصبح الدين العام يمثل 100% من الناتج المحلي الإجمالي المصري، وهي نسبة مقاربة لما هي عليه الآن أيضًا؛ ومع مجيء الاحتلال البريطاني لمصر ارتفع مُعدَّل نمو الديون المصرية، ولم تتوقف دوامة الديون الخارجية ونموها إلا عام 1943، عندما صدر قانون ينص على تسديد الديون الخارجية، وتحويلها إلى ديون محلية، ولم تشهد مصر عودة نحو دوامة الديون الخارجية؛ رغم أنها ظلت تحت رحمة الاستعمار والنفوذ البريطاني، حتى أتمت مصر تأميم قناة السويس عام 1956.
كيف تحولت مصر من دولة مدينة إلى دولة مُقرِضة؟
لم يكن لجوء مصر لنموذج الاقتراض من الخارج سياسة مصرية مستقلَّة؛ بل كانت جزءًا من السياسة والنفوذ الاستعماري في مصر، خصوصًا مع ما جَلَبَهُ من فائدة كبرى للبنوك البريطانية والفرنسية، والتي كسبت أموالًا طائلة على شكل فوائد، كما نجحت تلك البنوك في إخضاع الحكومة المصرية لبيع حصتها من أصول ملموسة مهمة في مصر؛ منها قناة السويس.
لكن بسبب الحرب العالمية الثانية لم تستطع بريطانيا وغيرها من دول أوروبا إقراض الدول الأخرى، لحاجتها الشديدة إلى كل مصادر التمويل الداخلية بسبب تبعات الحرب التي طالت مجتمعاتها، والتي سبقها الكساد العظيم في العالم كله، في الثلاثينيات.
إذ ظلت بريطانيا تسدد ديونها منذ الحرب العالمية الثانية حتى بداية الألفية الثالثة، وبعد اضطرارها للاستمرار في سداد الديون طيلة 60 عامًا، حتى بلغت قيمة الدين المُسدَّد ضعف ما استدانته وقت الحرب، عندما سُدد لكل من أمريكا وكندا، واللتين لم يتضرر اقتصادهما تضررًا مباشرًا من الحرب، بسبب بعدهما الجغرافي عن المعارك.
لكن هذه الديون تختلف عن ديونٍ أخرى اضطرت بريطانيا لأخذها، مثلما حدث مع مصر مستخدمةً نفوذها عليها بصفتها «تحت حمايتها».
والتي لم تسدد قيمتها بالطبع، فقد كانت بريطانيا بحاجة لموارد الدول التي تستعمرها، وتحصيل كل ما يمكنها من مصادر التمويل منها، لدعم مساعيها في الحرب العالمية الثانية، وفي معالجة جميع آثارها الاقتصادية، خصوصًا وأن هذه المستعمرات لن تستطيع إجبار بريطانيا على رد الديون لاحقًا.
ووصلت الديون البريطانية والمستحقة لصالح مصر مبلغ 350 مليون جنيه إسترليني، تبلغ اليوم دون فوائدها – وبحسبة رياضية بحتة – 21 مليار جنيه إسترليني؛ أو ما يعادل قرابة 26 مليار دولار أمريكي. وهذا الرقم يُمثِّل ما نسبته 18% من إجمالي ديون مصر الخارجية الحالية.
ولم يكن بمقدور الدولة المصرية حينها رفض إقراض الحكومة البريطانية، فلم تكن ديون مصر لدى بريطانيا إجراء ماليًّا اعتياديًّا تقوم به دولة مستقلة استقلالًا تامًّا بإقراض دولة أخرى، على قدم المساواة بين هاتين الدولتين؛ بل كان استغلالًا واضحًا للموارد المصرية على شكل ديون، ضمن علاقة غير متساوية بين بريطانيا المستعمِرة ومصر المُستَعمَرَة.
جمال عبد الناصر
حاولت مصر تذكير بريطانيا بالديون المستحقة عليها في عام 1946 ووعدت بريطانيا بمحاولة تسديدها خلال خمس سنوات، لكن ذلك لم يحصل بطبيعة الحال؛ بل إن بريطانيا لم تنهِ نفوذها في مصر إلا بالقوَّة والإجبار، وبعد توافر عوامل محلية ودولية أدت إلى قيام ما سمي بثورة 23 يوليو (تموز) 1952، والتي ساهمت في إجلاء آخر جندي إنجليزي عن مصر عقب العدوان الثلاثي عام 1956، إثر قرار تأميم قناة السويس.
ويقدر خبراء سياسيون واقتصاديون مصريون قيمة الديون المصريَّة الحالية على بريطانيا بـ270 مليار جنيه إسترليني، دون الفوائد؛ منذ الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء فترة الاستعمار البريطاني، وهي تبلغ 330 مليار دولار أمريكي، وتعادل أكثر من ضعف ديون مصر الخارجية الحالية، وهي كافية لجعل النسبة الأكبر من الدين المصري العام المحلي والخارجي تختفي تمامًا، فهي تمثل ما يقدر بـ90% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2020.
تبقَّى أن نذكر بأنَّ قصة هذا الدين المصري لبريطانيا كان عبارة عن صورة من صور نفوذ الاستعمار البريطاني في مصر، لا صورةً من صور ثرائها بحيث تستطيع إقراض غيرها في ذلك الوقت.
ولعل نفوذ الاستعمار البريطاني لمصر يتجلى واضحاً في قصة هذا الدين المصري لبريطانيا، وليس صورةً من صور ثرائها كما يعتقد البعض.