غالباً ما تبدأ قصص النجاح ببدايات بسيطة وصغيرة، وبإضافة القليل من الذكاء، والكثير من الاجتهاد والطموح، تكون النهاية المرجوّة، فكما يُقال “الاجتهاد يغلب الذكاء أحياناً”، فما بالك إذا اجتمعا؟
كان حارساً ليلياً بفندق بسيط بشوارع مونتريال، وعاملاً يغسل الصحون بأحد الفنادق الفرنسية، ثم موظفاً بسيطاً يحمل الطاولات والكراسي، لكنه يتحدث ثلاث لغات، وحاصل على ثلاث دبلومات في الفنادق.
وانتهى به الأمر بخبير مميز في مجاله، ومحاضر عالمي في مصر ، ومؤسس متفوق في التنمية البشرية.
عمل “إبراهيم الفقي” في خدمة النفس البشرية لجعلها في أفضل حالاتها دائماً، فحاول معرفة إمكانياتها ودرس إمكانية تطويرها وتنميتها.
مولده ونشأته
ولد “إبراهيم محمد السيد الفقي”، في قرية أبو النمرس القابعة بحي المنيب بمحافظة الجيزة في 5 أغسطس عام 1950، وكان له العديد من الإخوة والأخوات، خيث تلقى تعليمه بالمدارس المصرية الحكومية وتدرّج فيها حتى سنة تخرجه الأخيرة بالجامعة.
شارك وهو في التاسعة عشر من عمره ببطولة التنس لمنتخب مصر بألمانيا الغربية، وحصل على البطولة بنجاح، فقد ُعرف عنه منذ صغره عشقه للتنس ومداومته التدريب عليه.
ثم تزوج بعد تخرجه ببضع سنوات من “آمال الفقي” التي أنجب منها بناته التوأم “نانسي، ونيرمين”.
رحلة النجاح
بعد أن تزوج “الفقي” وهو في السابعة والعشرين من عمره، صحب زوجته وسافر إلى مونتريال بكندا، ليبدأ في تحقيق حلمه الذي صاحبه منذ طفولته في أن يصبح مديرًا لأكبر فنادق العالم -كما جاء على لسانه-.
عمل “الفقي” على التمهيد لحلمه منذ دراسته التي بالرغم من إنها كانت بمدارس عربية، إلا أنه عكف على تعلم لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية بجوار إصراره على ممارسة رياضته المفضلة التنس لست ساعات يوميًا.
وعن بدايته في بلاد الغربة، حكى “الفقي” كيف كانت رحلته شديدة القسوة بمجرد أن وطأت أقدامه أرض كندا، بالرغم مما حمله من مؤهلات ظنّ أنها ستفتح له الأبواب على مصراعيها للعمل في مجال تخصصه -الفنادق- إلا أن الواقع خالف كل توقعاته.
كانت خطوته الأولى هي غسيل الأطباق بفندق فرنسي، أمضى به عامًا كاملًا من عمره، حرص به أن يتعلم كافة أسرار الفندق إلى جانب دراسته بمعهد الفنادق الفرنسية.
على الرغم من تقبل “الفقي” لهذا الوضع البسيط مقارنًة بإمكاناته وطموحاته، إلا أن هذا الوضع البسيط لم يتقبله، فبعد مشوار عصيب مع التفرقة العنصرية والتعصب الذي واجهه كعربي يعمل بجهد يؤهله لجائزة أحسن عامل، التي كانت ُتلغى في كل مرة يفوز بها تحت ضغط العنصرية.
انتهى مشواره بالفندق الفرنسي بعد أن تركه محملًا باليأس والإحباط، فحكى كيف سار في شوارع مونتريال يائسًا ومتعبًا لا يقف عقله عن التساؤل ماذا سيفعل بعد؟
روى “الفقي” أن الرد على تساؤلاته جاءه سريعًا حين هاتفه صوت والده -رحمه الله- أن الله سبحانه وتعالى حين يغلق بابًا يفتح آخرًا أكبر منه دون النظر إلى ما مضى والبكاء عليه.
بعد هتاف والده قرر “الفقي” إنه سيحصل على الحلم الذي سافر من أجله في غضون ستة أعوام وبدأ بالعمل على ذلك.
أغلق “الفقي” الصفحة البائسة سريعًا، ووافق مرة أخرى على عمل لا يتناسب مع إمكاناته وطموحاته، ليبدأ من جديد بعمل أبسط من سابقه، فيحمل الكراسي وينقل الطاولات، بالإضافة إلى نوبات الحراسة الليلية بأحد فنادق مونتريال.
وبجانب عمله الذي استمر ستة أعوام، تمّ طرده منه وعودته إليه بضع مرات -على حسب ما ذكره-، وقام بدراسة الإدارة العليا بجامعة كورديا الكندية، ليصبح بنهاية الأعوام الست أول مدرب عربي مصري يعمل في فندق ضخم وتحت إشرافه 1300 عامل.
الفقي وإبداع العقلية المصرية
بخطوات متتالية ومنظمة، شغل “الفقي” منصب نائب مدير الفندق، فوجد الوقت قد حان لأن يتقن لغة البلاد التي يعمل بها وهي النقود، فكان عليه أن يدرك جيدًا كيف يستطيع الحصول عليها، فتخصص في الإدارة والتسويق والمبيعات، وبدأ اسمه كمسوق جيد في الظهور، ونجح في جمع الكثير من الأموال.
جاءت أولى ثمار كفاحه عام 1990، حين حصل على جائزة أفضل مدير عام فنادق بأمريكا الشمالية وتحدثت عنه الجرائد والمجلات.
استطاع “الفقي” أن يبدع في عمله حتى أطلق عليه لقب أبو الفنادق بعد أن أدخل أفكاره الجديدة إلى عمله واختار يومًا ليصبح هو عيد الأب كعيد الأم تمامًا، ثم اختار آخر ليصبح عيد الأسرة وهكذا.
استمرت إبداعات “الفقي” ليضفي النكهة المصرية على حفلات الزفاف الكندية ويدخل زفة الأفراح بها، ويأتي رمضان ليصنع الفقي الطقوس الرمضانية بفنادق مونتريال، وفي الأعياد الإسلامية كان يصنع الكحك، ويقوم بالذبح، وأصبحت الطقوس الإسلامية والعادات المصرية ذو وضع ووجود محبب بكندا.
استطاع “الفقي” أن ُيوجد المدارس العربية وينشئ المساجد، ولكن بالرغم من ذروة النجاح التي حصل عليها، إلا إنه عاد للصفر مرة أخرى ليبدأ من جديد في مشوار نجاح بمذاق التنمية البشرية.
مشوار رائد التنمية البشرية
بعد أن حصل “الفقي” على نجاح يفوق ما حلم به في مجال إدارة الفنادق، ضاقت نفسه فجأة بهذا العمل وشعر برغبة ملحة في البعد عن مجال الفنادق وبالفعل بدأ من جديد أولى خطواته في مشواره الجديد مع النجاح.
بعد أن وصل عدد ساعات عمله لـ 60 ساعة بالأسبوع، واستثمر أمواله بشركة كبيرة للفنادق، وكان مساعدًا للإدارة التنفيذية بها.
وبعد أن وضع أمواله بأحد فنادق الشركة بمشاركة اثنان آخرين، قاما هؤلاء الاثنان بلعبة -كما ذكر بنفسه- أدت إلى أن تخسر الشركة أموالها لتضيع معها أموال الفقي التي جمعها ويعود لما قبل الصفر من جديد.
بعد أن خسر “الفقي” كل ما يملك في شركته الفندقية، قرر أن يعيد جمع الأموال مرة أخرى، ولكن لحسابه هذه المرة لا لحساب أحد فبدأ بتدريب 18000 شخص في مجال الفنادق، وأصدر أول كتبه ليقوم بتسديد ما عليه من ديون قدرت بـ 180000 دولار، فوصلت مبيعات كتابه إلى100000 دولار في شهر واحد.
بدأ “الفقي” في تسديد ديونه من مبيعات الكتاب الأول له، ليعقبه بثاني محققًا مبيعات عالية، أيضًا ليجد أن لديه خبرة ليست بالقليلة في التسويق والمبيعات، وتبدأ كبرى الشركات في طلبه للعمل لديها.
بدأ “الفقي” في دراسة علوم الميتافيزيقا -العلم الذي يدرس الأسس الأولى أو المبادئ الأولى التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية-، وحصل على شهادة الدكتوراه بها، ثمّ تعمق أكثر وأكثر في دراسة العلاج بالروحانيات عن طريق المسافات.
وأثناء ذلك عرض عليه كثير من المناصب في العمل الفندقي، ولكنه قابلها جميعًا بالرفض فقد كان سعيدًا بالمجال الذي بدأ به وبالتغيير الذي حققه.
تعلم “الفقي” فن الإلقاء، ليتقن إلقاء علومه وخبرته على الآخرين كمحاضر عن التنمية البشرية، جاءت محاضرته بإحدى شركات البترول التي ألقاها لـ 1500 عامل بالشركة نقطة تحول بحياته لتبدأ انطلاقته في مجاله الجديد.
استمرت نجاحات “الفقي” في رحلة سفره للعديد من الدول في كافة أنحاء العالم، وبدأ اسمه في الظهور بشدة في كندا وأمريكا ثم الصين واستراليا واوروبا.
وحكى “الفقي” عن الرجل المغربي الجنسية الذي قابله مصادفة في إحدى رحلاته بنيويورك واتهمه بالأنانية إذ قال له كيف تحاضر بعلمك في جميع أرجاء العالم الأوروبي وتترك الوطن العربي، فقرر “الفقي” أن يوجه رسالته أيضًا للعالم العربي.
بدأت برامجه في القنوات الفضائية الإماراتية تعبر عن نجاحه وتألقه كأول محاضر عربي لعلوم التنمية البشرية بالقنوات الفضائية التي منها انطلقت شهرته بالوطن العربي وبمصر فأصبح جاهزًا للعودة إليها بعد أن وصلت شهرته إلى جميع أنحاء العالم أجمع.
عودته إلى مصر
عن أول محاضراته بمصر، حكى “الفقي” كيف كان يتوقع ويتمنى أن تحضر له أعدادًا بسيطة في بداية مشواره بمصر، ليمكنه أن يفهم منها احتياجات المجتمع المصري.
إلا أن العدد الحقيقي جاء عكس ما تمنى وتوقع، فكانت أول محاضراته بمصر بحضور أكثر من 1400 شخص، فبدأ الفقي مرحلة جديدة من فنون التنمية البشرية بمصر ليلقي محاضراته بلهجته المصرية ويلقى نجاحاً لم ينتهي إلا برحيله عن الحياة.
رحيل مؤسس التنمية البشرية
جاء خبر وفاة الفقي محترقًا بشقته الكائنة بحي مدينة نصر في الجمعة 10 فبراير 2012 صدمة لجمهوره في العالم أجمع الذي كان يعتبره مثلًا أعلى تنطلق منه أعلى طاقات الحياة، ليتمكن الإنسان من تحقيق كل ما هو أفضل.
فقد توفي الدكتور “إبراهيم الفقي” مختنقًا مع أخته وإحدى قريباته في ليلة من ليالي الشتاء التي أودت الدفايات الكهربائية التي أشعلها الراحل -كما جاء في تحقيقات النيابة- بسقيعها البارد فأحالته إلى حرارة ملتهبة بعد أن أودت بحياة 3 من البشر سيبقى أحدهم علامة على طريق التنمية البشرية لا يمحوها الموت هي “إبراهيم الفقي”.
لا يمكن أن ننكر كمية الاجتهاد والطموح التي كان يتمتع بها خبير التنمية البشرية “الفقي”، وكمية الفائدة والإنجازات التي أضافها في حياته وبعد وفاته.